بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

مِن يوم الجمل، الى يوم الطفوف..
يُقتَلُ الأطهار ومَن معهم، ثم يُنسَبُ ذلك الى الله تعالى !
لكنَّ الله تعالى أجلُّ من أن يظلِمَ عبادَه: ﴿وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبيدِ﴾.

 

أمّا يوم الجَمَل..

فحينما سُئِلَت عائشة: ِ أَ وَلَيْسَ قَدْ ضَرَبَ الله الحِجَابَ عَلَيْك‏ ؟ .. فَمَا أَخْرَجَكِ عَلَيْنَا مَعَ مُنَافِقِي قُرَيْش‏ ؟
قالت: كَانَ قَدَراً يَا ابْنَ عَبَّاس‏!
وقالت تارة أخرى: كَانَ شَيْ‏ءٌ قَدَّرَهُ الله عَلَي‏ ! (الكافئة في إبطال توبة الخاطئة ص38-39).

نَسَبَت عائشةُ حربَ أمير المؤمنين لقَدَر الله تعالى.. تَبرِئةً لنفسها.. وكأنَّ الله تعالى قد أجبَرَها على الخروج بعدما أمَرَها بالستر والحجاب ؟!

عائشةُ تشاركُ في تأسيس أو ترسيخ عقيدة (قدريّة) هذه الأمّة، وليس لهذه العقيدةِ حَدٌّ تقفُ عنده، فأمَّةُ الإسلام اليوم ترمي أسوأ أفعالها على الله تعالى !

عائشةُ حارَبَت عليّاً مُتَسَلِّحَةً (بقضاء الله وقَدَره)، واللُّعناء قتلوا حسيناً وعترته بنفس السِّلاح !

لمّا أُدخِلَ الإمام زين العابدين عليه السلام على ابن زياد وعَلِمَ أنَّه (عليُّ بن الحسين) قال له: أَ لَيْسَ قَدْ قَتَلَ الله عَلِيَّ بْنَ الحُسَيْنِ ؟!

ابنُ زيادٍ ينتسبُ لمدرسةٍ رَوَّجَت لها عائشةُ من قبل، ترى أن الله تعالى هو قاتل المظلوم !
ولو كان كذلك لكان عزَّ وجلَّ ظالماً لأوليائه وأعدائه:
أمّا أولياؤه، فلأنّه يقتلهم على يد أعدائه !
وأما أعداؤه، فلأنّه يجبرهم على قتل أوليائه ثم يعاقبهم !

يجيب الإمام زين العابدين عليه السلام: قَدْ كَانَ لِي أَخٌ يُسَمَّى عَلِيّاً قَتَلَهُ النَّاسُ !
هذا هو الحقُّ، الله تعالى ليس قاتلاً لعليٍّ الأكبر، الله تعالى أمر بمَوَدَّتِه، لكنّ العِناد وعمى القلب قد استحكم، فَقَال لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: بَلِ الله قَتَلَهُ !
فَقَال عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ (ع): ﴿الله يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها﴾ ! (الإرشاد ج‏2 ص116).

الله تعالى هو قابضُ كلِّ روحٍ، فهل هو قاتلُ كلِّ أحد ؟!

استشاط ابن زيادٍ غضباً من كلام الله تعالى ! ومن جرأة الإمام على الردّ عليه..

ثمَّ تكرَّر الأمرُ مع يزيد.. التلميذُ الآخر في هذه المدرسة المشؤومة، لمَّا أُدخِل عليه الإمام سلام الله عليه، فقال له يزيد: يَا عَلِيُّ، الحَمْدُ لله الذِي قَتَلَ أَبَاكَ !
قَال عَلِيٌّ (ع): قَتَلَ أَبِيَ النَّاسُ !
قَال يَزِيدُ: الحَمْدُ لله الذِي قَتَلَهُ فَكَفَانِيهِ.
قَال عَلِيٌّ (ع): عَلَى مَنْ قَتَلَ أَبِي لَعْنَةُ الله، أَ فَتَرَانِي لَعَنْتُ الله عَزَّ وَجَلَّ؟! (الإحتجاج ج‏2 ص311).

ومرَّةً أخرى، ليس عند يزيد من جوابٍ غير الغضب والظلم والقهر والإنتقام !

لقد انتشرت هذه العقيدة بين المسلمين في تلك الأيام كثيراً، فأسَّسَت لما نراه اليوم وكلّ يوم، وها هو الإمام أميرُ المؤمنين عليه السلام يبيّن بعد منصرفه من صفين لشيخٍ من جنده أنّ كلّ ما يجري بقضاء الله وقَدَرِه: مَا عَلَوْتُمْ تَلْعَةً وَلَا هَبَطْتُمْ بَطْنَ وَادٍ الا بِقَضَاءٍ مِنَ الله وَقَدَرٍ !

يظنُّ حينها هذا الرَّجُلُ أن الحقَّ هو ما قالته عائشة، وحينها لا أجرَ ولا ثواب على العناء !

فيجيبه أمير المؤمنين عليه السلام: مَهْ يَا شَيْخُ، فَوَ الله لَقَدْ عَظَّمَ الله الأَجْرَ فِي مَسِيرِكُمْ وَأَنْتُمْ سَائِرُونَ، وَفِي مُقَامِكُمْ وَأَنْتُمْ مُقِيمُونَ، وَفِي مُنْصَرَفِكُمْ وَأَنْتُمْ مُنْصَرِفُونَ.
وَلَمْ تَكُونُوا فِي شَيْ‏ءٍ مِنْ حَالاتِكُمْ مُكْرَهِينَ، وَلَا اليْهِ مُضْطَرِّينَ..

وَتَظُنُّ أَنَّهُ كَانَ قَضَاءً حَتْماً، وَقَدَراً لَازِماً ؟!
إِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبَطَلَ الثَّوَابُ وَالعِقَابُ، وَالأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالزَّجْرُ مِنَ الله.
وَسَقَطَ مَعْنَى الوَعْدِ وَالوَعِيدِ، فَلَمْ تَكُنْ لَائِمَةٌ لِلْمُذْنِبِ وَلَا مَحْمَدَةٌ لِلْمُحْسِنِ !

 

وهذا جوهرُ عقيدة عائشة ويزيد وابن زياد وسواهم !

ما من لومٍ على المذنب ! فليس على يزيد وابن زيادٍ وهذا الجيش الجرّار القاتل من ذنبٍ، فالله تعالى هو قاتلُ الحسين ! كما أنّ الله تعالى هو الذي أخذ عائشة الى الجمل ! بزعمهم..

وحينها يصير كلُّ إفكٍ وقول زورٍ وقتلٍ لأهل الحق وظُلمٍ وعُدوانٍ ارتكبه الخلفاء، هو من فِعلِ الله تعالى ! فلا يستحقون عليه عقاباً ولا عذاباً !

أين عدلُ الله تعالى إذاً ؟!

لقد تبخَّرَ مع هؤلاء وإن ادّعوا الإسلام، لذا وصفهم أميرُ المؤمنين عليه السلام ووصف عقيدتهم بقوله:
تِلْكَ مَقَالةُ:


1. إِخْوَانِ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ
2. وَخُصَمَاءِ الرَّحْمَنِ
3. وَحِزْبِ الشَّيْطَانِ
4. وَقَدَرِيَّةِ هَذِهِ الأُمَّةِ
5. وَمَجُوسِهَا (الكافي ج‏1 ص155).

ولكن.. يواجهنا هنا إشكالان:

 

الإشكال الأوّل: شاء الله أن يراك قتيلاً !

إنّ الشيعة ينسبون للإمام الحسين قولَه لأخيه محمد بن الحنفية حينما طلب منه عدم الخروج للكوفة، فأجابه:
أَتَانِي رَسُولُ‏ الله (ص) بَعْدَ مَا فَارَقْتُكَ، فَقَال: يَا حُسَيْنُ (ع)، اخْرُجْ، فَإِنَّ الله قَدْ شَاءَ أَنْ يَرَاكَ قَتِيلًا (اللهوف ص65).

فإذا شاء الله تعالى قتلَ الحسين، فلماذا يلومُ الشيعةُ يزيد بن معاوية وابن زياد وشمر ومَن معهم ؟! وكيف يشتدُّ غضب الله تعالى على قَتَلَةِ الحسين عليه السلام والله قد شاء أن يرى الحسين قتيلاً ؟!

 

والجواب عليه:

أنّ مشيئة الله لأفعال العباد تُتَصَوَّرُ على مَعَانٍ، منها:

1. أنّ كل ما يجري في الكون بما فيه أفعال العباد لا يخرُجُ عن سلطان الله تعالى وقدرته، فهو خاضعٌ لمشيئته سواءٌ أمرَ الله تعالى به أو نهى عنه.

2. أنّه تعالى هو الذي أقدرَ العباد على أفعالهم، فأفعالهم إنما وقعت بمشيئته على إقدارهم ونفوذ إرادتهم.

3. أنّه تعالى لم يمنعهم من فعلها بالقهر والجبر.


وقد قال تعالى: ﴿ولَوْ شاءَ الله ما أَشْرَكُوا﴾، فلو شاء الله أن لا يُشركوا لقَهَرَهُم على الإيمان، لكنّه شاء أن يكونوا مختارين، يؤمن منهم من شاء عن بيّنة، ويكفر من شاء عن بيّنة.

والشاهد على ذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَميعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنينَ﴾ (يونس99).
فالله تعالى يقدر أن يجعلهم جميعاً مؤمنين، لكنّ هذا إكراهٌ يبطل به الثواب والعقاب.

وأوضح منه قوله تعالى: ﴿وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثيرٍ مِنَ المُشْرِكينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دينَهُمْ وَلَوْ شاءَ الله ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ﴾ (الأنعام137).

فلو شاء الله ما قتلَ هؤلاء المشركون أولادهم، لكنّ مَنعَهم مَعَ رغبتهم يعني الجَبرَ، وهو ينافي حكمةَ الله تعالى وعدله.
وهكذا شاء الله أن يُقتل الحسين عليه السلام، بمعنى أنه لم يمنع الأنجاس من قتله وهو القادرُ على ذلك، امتحاناً لهم ليستحق الثواب من أطاع والعقاب من عصى.

 

الإشكال الثاني: أنّ الإمام اختار لقاء الله !

ورد في الحديث الشريف عن الباقر عليه السلام:
لَمَّا نَزَلَ النَّصْرُ عَلَى الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ حَتَّى كَانَ بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ، ثُمَّ خُيِّرَ النَّصْرَ أَوْ لِقَاءَ الله، فَاخْتَارَ لِقَاءَ الله (الكافي ج1 ص465).

وهذا يعني أنّ الإمام قد اختار الموت، فكيف يُلامُ يزيدُ وذلك الجيش وهو عليه السلام قد اختار الموت بنفسه ؟!
وقد كتب الله تعالى عليه وعلى أهل بيته القتل، كما قالت السيدة زينب عليها السلام لابن زياد حينما خاطبها: كَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ الله بِكُمْ أَهْلَ البَيْتِ ؟
قَالتْ: كَتَبَ اليْهِمُ القَتْلَ فَبَرَزُوا الى مَضَاجِعِهِمْ (الأمالي للصدوق ص165).

والجواب عليه:

من جهتين:

 

الجهة الأولى:

أنّ اختيار الإمام لقاء الله تعالى يعني عدم طلبه أو عدم اختياره للمدد الغيبي، وهذا لا يبرِّرُ أيَّ ظلمٍ، فإنّ الله تعالى قادرٌ على أن يمنَعَ كلَّ ظالمٍ من إيقاع الظلم على كلّ مظلوم، فهل تَخلِيَةُ الله تعالى بين الظالم والمظلوم في الدنيا تعني تبرئة الظالم ؟! إذاً لا يبقى ظُلمٌ على وجه البسيطة.
إنّما ادّخر الله تعالى للمظلوم ثواباً، وللظالم عقاباً.

وهكذا لم يستعجل الإمام عليه السلام نَصرَ السماء في الدُّنيا، وأراد أن يتمَّ الإمتحانُ الالهيُّ للخلق دون مَدَدٍ غيبيّ له، حتى قال عليه السلام لمؤمني الجنّ الذين أرادوا نصره: فَإِذَا أَقَمْتُ فِي مَكَانِي فَبِمَا يُمْتَحَنُ هَذَا الخَلْقُ المَتْعُوسُ ؟! وَبِمَاذَا يُخْتَبَرُونَ ؟! وَمَنْ ذَا يَكُونُ سَاكِنَ حُفْرَتِي ؟! (اللهوف ص66).

 

الجهة الثانية:

أنّ ما فعله الإمام عليه السلام هو عين ما فعله الأنبياء، وما فعله الله تعالى معه هو ما فعله مع الأنبياء المتقدمين، وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: وَلَوْ كَانَتِ الأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لَا تُرَامُ، وَعِزَّةٍ لَا تُضَامُ.. لَكَانَ أَهْوَنَ عَلَى الخَلْقِ فِي الاخْتِبَارِ، وَلَكِنَّ الله أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الاتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ، وَالتَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ، وَالخُشُوعُ لِوَجْهِهِ.. أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً لَا تَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ (الكافي ج4 ص198).

فإنّ الله تعالى وإن نَصَرَ الأنبياء والأولياء في مواطن كثيرة حِفظاً لدينه، فإنَّه ما دَفَعَ بالمدَدِ الغيبيّ عنهم دائماً، وما أظهَرَ لهم من سُبُل المجد والجبروت ما يقهرون به أعداءهم في كلِّ حين، حتى قُتِلوا وظُلموا وشرِّدوا واضطهدوا، كي لا يؤمن بهم الناس خَوفاً منهم وطمعاً فيما عندهم، بل أراد تعالى أن يكون الإيمانُ خالصاً لوجهه، وهو ما يُناسب الإمتحان الالهي.

بهذا يتبيّن أن مدرسة الباطل تنسبُ القبائح لله تعالى ولأوليائه، فيصير عندهم الله تعالى هو قاتلُ الحسين لتبرئة أهل النفاق والشقاق..

ولمّا تَرَتَّبَ على ذلك نسبة القبائح لله تعالى، صارُ أصحابها من حزب الشيطان، وخُصَماء الرحمان.

اللهم إنا نبرأ اليك من هؤلاء، ومِمَّن قَتَلَ الحسين عليه السلام.. اللهم العنهم لعناً وبيلاً.. وأدخل معهم الراضي بأفعالهم.. وارحمنا بمحمدٍ واله، وعَظِّم أجورنا بمصابنا بهم.

والحمد لله رب العالمين

 

بقلم:  الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي