هل يُنسى الحُزْنُ.. على الحسين ؟!
بقلم: الشيخ مصطفى مصري العاملي
بسم الله الرحمن الرحيم
راقصةٌ ترقص لملك بني إسرائيل هيرودس في يوم مولده، ولا تطلبُ منه ذهباً أو فضةً، بل تطلب رأسَ نبيٍّ من أنبياء الله تعالى، يحيى بن زكريا عليهما السلام!
قالت بحسب إنجيل متّى: «أَعْطِني ههُنَا عَلَى طَبَق رَأْسَ يُوحَنَّا المَعْمَدَانِ»..
فَأَرْسَلَ وَقَطَعَ رَأْسَ يُوحَنَّا فِي السِّجْنِ. فَأُحْضِرَ رَأْسُهُ عَلَى طَبَق وَدُفِعَ إِلَى الصَّبِيَّةِ (متى14: 8-10-11).
إنَّها دنيا هانت على ربِّها حتى لم يمنع من قتل نبيِّه فيها، ثم إهدائه إلى البغية، حتى كان الإمام الحسين سَيِّدُ الشهداء عليه السلام يُكثِرُ من ذكره ويقول: مِنْ هَوَانِ الدُّنْيَا عَلَى الله أَنَّ رَأْسَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا (ع) أُهْدِيَ إِلَى بَغِيٍّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيل (الإرشاد ج2 ص132).
هانت الدُّنيا على ربِّها، لكنَّهُ عزَّ وجلَّ يُمهِلُ فيها ولا يُهمِل.
لقد أعقَبَ قتلُ يحيى عليه السلام آثاراً خطيرة ثلاثة:
أوَّلُها: بكاء السماء عليه !
فكان حَدَثاً عظيماً لَم يسبق أن شهدته البشريّةُ في تاريخها.
ثانيها: دَمُ يحيى يغلي ولا يسكن !
لقد روينا عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: فَأَتَوْا بِرَأْسِ يَحْيَى (ع) فِي طَشْتٍ.. ثُمَّ غَلَى الدَّمُ فِي طَشْتٍ حَتَّى فَاضَ إِلَى الْأَرْضِ، فَخَرَجَ يَغْلِي وَلَا يَسْكُنُ! (تفسير القمي ج1 ص88).
ثالِثُها: دم يحيى يسكن!
مرَّت 100 عامٍ على دم يحيى وهو يغلي ! حتى جاء بخت نصر وقال: لَأَقْتُلَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبَداً حَتَّى يَسْكُنَ هَذَا الدَّمُ ! .. وَ لَمْ يَزَلْ بُخْتَنَصَّرُ يَقْتُلُهُمْ.. وَالدَّمُ يَغْلِي وَلَا يَسْكُنُ حَتَّى أَفْنَاهُمْ.. فَسَكَنَ (تفسير القمي ج1 ص88).
هذه الأحداث التي روى بعضها الإنجيل، ونقَلَ لنا بعضها أئمة آل محمد عليهم السلام، تكشفُ شيئاً من عظمة أنبياء الله تعالى، والظُّلامات التي وقعت عليهم، وتَأَثُّرِ الكون بقتلهم، وانتقام الله تعالى من قَتَلَتِهِم والراضين بأفعالهم في الدُّنيا قبل الآخرة.
أمّا تاريخُ المسلمين فينقل واقعةً أعظم وأكثر تألُّماً وتَفَجُّعاً مما جرى على يحيى عليه السلام، ذاكَ حيثُ قتل سبطُ رسول الله صلى الله عليه وآله قتلةً ما قتل مثلها أحدٌ سواه، وشابَهَ يحيى بن زكريا في الأمور الثلاثة:
أولاً: بكاء السماء على الحسين !
وقد ثبتَ ذلك بما لا يحتاجُ إلى أن يُستدلَّ عليه، وكان نوعاً من المشابهة بينهما عليهما السلام، حتى قال الصادق عليه السلام في جده الحسين: زُرْهُ وَلَا تَجْفُهُ، فَإِنَّهُ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ، وَسَيِّدُ شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَشَبِيهُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، وَعَلَيْهِمَا بَكَتِ السَّمَاءُ وَالْأَرْض ! (كامل الزيارات ص91).
ثانياً: دماءٌ تغلي عند قتل الحسين!
لقد قُتِلَ يحيى في بيت المقدس: ثُمَّ غَلَى الدَّمُ فِي طَشْتٍ حَتَّى فَاضَ إِلَى الْأَرْضِ.
ولمّا تشابهت قصة الحسين ويحيى عليهما السلام، تكرَّرَ الامرُ في بيت المقدس نفسها، فقد نُقِلَ عن بعض أهلها: وَالله، لَقَدْ عَرَفْنَا أَهْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَنَوَاحِيهَا عَشِيَّةَ قَتْلِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (ع).. مَا رَفَعْنَا حَجَراً وَلَا مَدَراً وَلَا صَخْراً إِلَّا وَرَأَيْنَا تَحْتَهَا دَماً عَبِيطاً يَغْلِي ! (كامل الزيارات ص77).
مشابَهَةٌ في الدِّماء، بعد بكاء السماء، وهذه آثارُ قتل الحسين عليه السلام تظهر في بيت المقدس دماءً تغلي تحت كلّ حجرٍ ومدر.
ثالثاً: متى يسكن دم الحسين ؟!
لم نَعُد نرى دماءً تغلي في أيامنا هذه، لكنَّ ما خفي علينا حول الدماء في غاية الغرابة، وقد كشفَ سيِّدُ الشهداء عليه السلام شيئاً من ذلك، حينما قال لولده زين العابدين عليه السلام أن بخت نصر: قَتَلَ عَلَيْهِ سَبْعِينَ الفاً حَتَّى سَكَنَ !
أي على دم يحيى!
ثم بَيَّنَ الإمامُ ما لا نرى بأعيننا ولا نعرف سرَّهُ وحقيقته حين يقول:
يَا وَلَدِي يَا عَلِيُّ، وَالله لَا يَسْكُنُ دَمِي حَتَّى يَبْعَثَ الله المَهْدِيَّ، فَيَقْتُلَ عَلَى دَمِي مِنَ المُنَافِقِينَ الكَفَرَةِ الفَسَقَةِ سَبْعِينَ ألفاً (مناقب ال أبي طالب عليهم السلام ج4 ص85).
يكشفُ هذا النصُّ أموراً منها:
1. أنَّ دمَ الحسين عليه السلام لا يزال يغلي بعد مرور هذه السنين الطويلة! ولئن انقضت مئة عام حتى سكن دمُ يحيى، فإن أكثر من ألف عامٍ قد مضت ولم يسكن دمُ الحسين عليه السلام بعد ! فأين ما جرى على يحيى مع عظمته أمام ما جرى على الحسين عليه السلام وآل بيته ؟! وأين يحيى مع سموّ مقامه من الحسين عليه السلام ؟!
ولئن ظَهَرَ دمُ يحيى وهو يغلي سنين، فإنّا لا نعرفُ كيف يغلي دم الحسين عليه السلام اليوم، سوى ما نراه من استحالة تربة الحسين عليه السلام دماً في عاشوراء، أما ما خلف ذلك من عوالمَ وحقائق فعلمها عند الله تعالى وأوليائه الكرام.
2- أنَّ سكون الدّم الطاهر موقوفٌ على أخذ المهدي عليه السلام بثاره من قَتَلَتِه، حيث أن الله تعالى: يَبْعَثُ عَلَى بَقَايَا ذَرَارِيِّهِمْ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ هَادِياً مَهْدِيّاً مِنْ وُلْدِ الحُسَيْنِ المَظْلُومِ، يُحَرِّفُهُمْ [بِسُيُوفِ أَوْلِيَائِهِ] الى نَارِ جَهَنَّمَ (تفسير الإمام عليه السلام ص369).
وقد ساغَ الانتقامُ من هؤلاء لرضاهم بفِعال آبائهم، وإقامتهم على العداوة لآل محمد عليهم السلام.
متى ينقضي حزن الشيعة ؟!
يكادُ يُخيَّلُ للمؤمن أن سكون دَم الحسين عليه السلام بقتل المهدي عليه السلام لهؤلاء الكفرة والمنافقين يعني انتهاء أمد الحزن عند آل محمد وشيعتهم!
لكنَّ الشيخ الصدوق رحمه الله يروي عن النبيِّ صلى الله عليه وآله رواية تأخذُ الألباب، تكشفُ أنَّ سكون الدَّم الطاهر بقتل هؤلاء في الدُّنيا لا يعني انقضاء الحزن ونسيانه، ولا ارتفاع الهمِّ والغمِّ عن آل محمد وشيعتهم !
فإنَّ حُزنهم يستمرُّ حتى يوم القيامة !
كلُّ مصيبةٍ قَد تُنسى في هذه الدُّنيا مع طول الأيام والسنين، لكنَّ الدُّنيا تنقضي ولا ينقضي الحزن على الحسين !
آهٍ لمصابك يا أبا عبد الله.. آهٍ مما جرى عليك وعلى آلك.. حتى غيَّرَتْ مصيبتك نواميس الطبيعة، فبكتك السماء والأرض، وحطَّ الحُزنُ عليك رحاله بين المؤمنين بلا انقضاء، حتى يوم الجزاء !
فعن النبي صلى الله عليه وآله:
إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ نُصِبَ لِفَاطِمَةَ (ع) قُبَّةٌ مِنْ نُورٍ: إنَّه يومُ الكرامة، فاطمةُ التي لمّا أقامها الله تعالى أمام العرش: زَهَرَتِ المَشَارِقُ وَالمَغَارِبُ، بعد أن كانت قد أظلمت.. يُنصَبُ لها يوم الجزاء قبَّةٌ من نور ليظهرَ مَجدُها وسؤددها وعظمتها أمام الخلق، لكنَّ حدثاً عجيباً يقع حينها.
وَأَقْبَلَ الحُسَيْنُ (ع) رَأْسُهُ عَلَى يَدِهِ: لا حول ولا قوّة إلا بالله !
أيُّ معنى يستبطن هذا الفعل ؟! وأيُّ مصيبةٍ تُلازمُ آل محمدٍ حتى يوم الجزاء ؟! وما حالُ الزَّهراء التي ترى ولَدَها ورأسه على يده ؟!
يقول النبي (ص):
فَإِذَا رَأَتْهُ شَهَقَتْ شَهْقَةً لَا يَبْقَى فِي الجَمْعِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ الا بَكَى لَهَا: بكاءُ الزّهراء يبكي ملائكة السماء وكلّ الأنبياء والمؤمنين، ألم تُزهر المشارق والمغارب بنورها ؟! فكيف لا يبكي أهلُ الحقِّ لبكائها؟! أليست حبيبة حبيب الله ؟ ألا ترى وَلَدَها قطيع الرأس يحمله على يده!
هذا حُزنٌ من نوعٍ خاص، فقد بشَّرَ الله الذين سبقت لهم الحسنى أنَّهم: ﴿لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾، فليس حزن المؤمنين هؤلاء فَزَعاً من عذاب الله، بل تَفَجُّعاً على ما أصاب الحسين عليه السلام وانكساراً لشهقة الزهراء الطاهرة عليها السلام.
وهكذا يتجدَّدُ عزاء الحسين يوم الجزاء! فليس البكاء على الحسين مقصوراً على عالمٍ دون آخر، يظلُّ المؤمنون كالأنبياء والملأ الأعلى في بكاءٍ دائمٍ حتى تأتي الساعة الموعودة.
يقول صلى الله عليه وآله:
فَيُمَثِّلُ الله عَزَّ وَجَلَّ رَجُلًا لَهَا فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ وَهُوَ يُخَاصِمُ قَتَلَتَهُ بِلَا رَأْسٍ، فَيَجْمَعُ الله قَتَلَتَهُ وَالمُجَهزِينَ عَلَيْهِ وَمَنْ شَرِكَ فِي قَتْلِهِ، فَيَقْتُلُهُمْ حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِهِمْ: لقد خاصم الإمامُ عليه السلام قَتَلَتَهُ في الدُّنيا قبل أن يقتلوه، لكنَّ رأسه لم يكن قد فُصِلَ عن جسده الشريف، وأبان الحجَّة، وأوضح المحجّة، فقتلوه وهم مخصومون محجوجون، أما هذه الساعة، فإنَّهُ يخاصمهم دون رأسه الذي أبانوه عن جسده الشريف، ثم يقتلهم جميعاً، حين يكون اللهُ لَهُ ناصراً، فهل من مفرٍّ من عدله عزّ وجل ؟!
يقول (ص):
1. ثُمَّ يُنْشَرُونَ فَيَقْتُلُهُمْ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (ع).
2. ثُمَّ يُنْشَرُونَ فَيَقْتُلُهُمُ الحَسَنُ (ع).
3. ثُمَّ يُنْشَرُونَ فَيَقْتُلُهُمُ الحُسَيْنُ (ع).
4. ثُمَّ يُنْشَرُونَ فَلَا يَبْقَى مِنْ ذُرِّيَّتِنَا أَحَدٌ الا قَتَلَهُمْ قَتْلَةً.
فَعِنْدَ ذَلِكَ يَكْشِفُ الله الغَيْظَ وَيُنْسِي الحُزْنَ:
هذه هي الساعة التي ينتظرُها المؤمنون، ساعة كشف الغيظ بقتل قَتَلَةِ الحسين مراراً وتكراراً حتى يشفي الله صدور قومٍ مؤمنين، وينسيهم أحزانهم.
هكذا يصيرُ الشيعة محلاً لترحُّم الإمام عليه السلام: فَقَدْ وَالله شَرِكُونَا فِي المُصِيبَةِ بِطُولِ الحُزْنِ وَالحَسْرَةِ (ثواب الأعمال ص216-217).
حُزنٌ طويلٌ، وحسرةٌ دائمةٌ، لا تنقضي إلا بقتل هؤلاء الظالمين في تلك الساعة، فيكرم الله عزَّ وجل آل محمدٍ وشيعتهم في ذلك اليوم، حين يُنسيهم الحزن أولاً: ﴿وَقالُوا الْحَمْدُ لله الَّذي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾ (فاطر34)، ثم يتحفهم بسرورٍ لا يعلمُ صفَته إلا الله عزّ وجلّ!
فعنهم عليهم السلام:
إِنَّهُ إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ جَلَسَ الحُسَيْنُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ظِلِّ العَرْشِ، وَجَمَعَ الله زُوَّارَهُ وَشِيعَتَهُ لِيَصِيرُوا مِنَ الكَرَامَةِ وَالنَّضْرَةِ وَالبَهْجَةِ وَالسُّرُورِ الى أَمْرٍ لَا يَعْلَمُ صِفَتَهُ الا الله، فَيَأْتِيهِمْ رُسُلُ أَزْوَاجِهِمْ مِنَ الحُورِ العِينِ مِنَ الجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: إِنَّا رُسُلُ أَزْوَاجِكُمْ اليْكُمْ يَقُلْنَ: إِنَّا قَدِ اشْتَقْنَاكُمْ وَأَبْطَأْتُمْ عَنَّا، فيَحْمِلُهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ السُّرُورِ وَالكَرَامَةِ الى أَنْ يَقُولُوا لِرُسُلِهِمْ: سَوْفَ نَجِيئُكُمْ إِنْ شَاءَ الله (الأصول الستة عشر ص340).
تلكَ الساعة التي ينتظرُها المؤمنون، وزوار الحسين عليه السلام، نعيمٌ في الآخرة وسرورٌ وحبور يفوقُ كلَّ وصفٍ بصحبة الحسين عليه السلام!
كلُّ ألمٍ وتفجُّعٍ وحزنٍ ألمَّ بالشيعة في أيام الحسين يظلُّ مذخوراً عند الله تعالى، حتى تأتي ساعةُ البهجة مع الحسين نفسه !
لطالما انفطرت قلوب المؤمنين في مجالس الحسين في الدُّنيا، لكنَّ مجالس الحسين تلك الساعة فيها من الكرامة ما لا يوصف..
فهنيئاً لشيعة الحسين.. وزوّاره.. والباكين عليه.. والمحيين لأمره.. والمغيظين لأعدائه..
هنيئاً لكم أيُّها الموالون تلك الجلسة في ظلِّ العرش.
والسلام عليك يا أبا عبد الله.. وعلى الأرواح التي حلَّت بفنائك..
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
2021-10-04