بقلم:  الاستاذ محمود جلال خليل _ مصر 

 

 

لم يكن أكثر الناس تشاؤما يتوقع أن ياتي يوم على مصر يجد فيها الفكر الوهابي السلفي مكانا له, بل وينتشر فيها ويعشش في أركانها وشوارعها وأزقتها, هذا لأن هذا الفكر الذي نشأ على هضبة نجد وخرج منها مدعوما بالمال والسلاح من السلطة الحاكمة آنذاك الى بقية شبه الجزيرة العربية في بداية القرن الثاني عشر الهجري كان دائما ملفوظا ومحاربا من أهل مصر وفقهائها وعلمائها ورجال الأزهر الشريف على مر التاريخ, ودائما كانوا يتصدون لهذا الفكر ويفندونه ويردوه على اصحابه, ووصل الأمر أن أرسل والي مصر آنذاك محمد علي باشا الحملات العسكرية الى الجزيرة العربية بقيادة ابنيه طوسون باشا تارة وابراهيم باشا الى عاصمتهم الدرعية فحاصروها عام 1818 ميلادية لمدة خمسة اشهر حتى استسلم أهلها فأمر بتدميرها واقتاد أميرها عبد الله الى القاهرة وارسل من هناك الى اسطنبول حيث قطعت راسة بعدما وجهت له تهمة العمالة للانكليز وقتل وسلب الحجاج وتدمير المقدسات الاسلامية في الحجاز والخروج على اجماع المسلمين.

واصدر علماء الازهر وعلى مدى قرن ونصف القرن من الزمان المئات من الفتاوى والكتب التي وضحت حقيقة الوهابيين وخطرهم على الاسلام والمسلمين وخروجهم من الدين ولازال العديد من تلك الفتاوى والكتب تزخر بها ملفات الازهر والمكتبات العامة والخاصة وعاشت الوهابية في شبه الجزيرة العربية سنوات طويلة حبيسة ديارها لا تبارحها, كلما ارادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها, حتى نهاية السبعينات وبسبب لعبة التوازنات التي ابتكرتها السلطة في هذا الوقت للقضاء على التيار اليساري المعارض والمتنامي في البلاد والشديد التصدي لسياسات الحكومة فقد فتحت السلطة الابواب على مصراعيها لرموز التيار الاسلامي الاصولي أو السياسي كما هو معروف للذين قمعهم عبد الناصر وفروا الى دول الخليج وعاشوا سنوات طويلة بين احضان الوهابية حتى تشبعوا بفكرهم وعادوا الى بلادهم حاملين له ومبشرين به, استيقظ المصريون على مصطلحات كانت غريبة على اسماعهم مثل الإمامة, والبيعة, والسمع والطاعة, والمجتمع الجاهلي, والكفر البواح, والاستحلال ...
ورمى الابن اباه بالكفر وهجرت الزوجة بيت زوجها وهربت الإبنة من أبيها ولحقوا بالجماعة المسلمة التي هي نواة المجتمع المسلم مستقبلا كما لقنوهم وبايعوا إمامها وأعطوه فروض السمع والطاعة وجابت موجات التكفير والتفجير طول البلاد وعرضها, وفقدت مصر أمنها وأمانها وكان أول الضحايا هو رئيس الجمهورية نفسه, وأعلنت حالة الطوارئ واصيبت البلد بما يشبه الشلل مع هروب رؤوس الأموال الى الخارج ومعها الكفاءات من أهل العلم والخبرة, ولم تتوقف العمليات الارهابية بل زادت وتنوعت وكانت في البداية موجهة لرجال الأمن والشرطة ثم اتسعت الدائرة لتشمل المدنيين ورجال الفكر والثقافة المناهضين لفكر هذه الجماعات ثم تعدت هؤلاء الى كبار المسؤولين أنفسهم, ثم عمدت هذه الجماعات الى محاولة إثارة الشعب على النظام الحاكم بتجويعه وتجفيف موارده المالية ومن ثم كان قطع أحد أهم مصادر العملة الصعبة الى البلاد وهي السياحة, فتصيدوا الوفود السياحية المنتشرة على ارض مصر من القاهرة حتى الصعيد وتوقف النشاط السياحي تماما وتوجهت الوفود السياحية الى البلاد المجاورة ذات الطبيعة المناخية المشابهة بعد أن وقر في ذهنهم أن السفر الى مصر والتجول بها مثل الذهاب الى غابات أفريقيا والتجول في أحراشها يتطلب عربات مجهزة وحراسة مشددة.

 

أما من الناحية الدينية والاجتماعية فقد انتشر بين الناس فتاوى كانت غريبة على اسماعهم مثل حرمة مصافحة المسيحيين والتضييق عليهم فى الطرقات وعدم دخولهم الجيش كذلك حرمة الاحتفال بشم النسيم وتهنئة الاقباط بأعيادهم وهي جمل قصيرة بسيطة كفيلة بتمزيق المجتمع وتقطع أوصاله, وتحريم الصلاة في مساجد أولياء الله الصالحين مثل مسجد الامام الحسين والسيدة زينب بحجة أن بها قبور ووصف مرتاديها بـ (( القبوريين )), وتحريم التدخين وبيعه وتحريم لعب الورق ولعب الشطرنج وحرمة حلق اللحية أوتقصيرها كذلك تحريم الموسيقى والغناء ومشاهدة المسلسلات والتصوير وقراءة المجلات والعمل في البنوك الربوية والانحناء في لعبة الكاراتيه واستعمال الكولونيا كذلك حرمة خروج المراة بمفردها وقيادة السيارات ولبس الكعب العالي ولبس ساعة اليد في فترة الحداد لأنها تشبه الحلي!!!

 

اعتمد فقهاء الوهابية في حربهم المقدسة ضد المسلمين على سلاح الفتوى ذلك السلاح الذي أمطر ولا زال يمطر المسلمين بآلاف من الفتوى حتى يظل مشدودا لهم ولفقهائهم لا يتحركون ولا ينامون ولا يتقلبون الا بإذنهم وبفتوى من شيخه واستطاع فقهاء الوهابية ايصال ما يريدونه الى المجتمع أنه ضال وجاهل ومبتدع ومن الممكن في لحظة أن يقع في الشرك الأكبر والاصغر اذا عمل شئ أو قال كلمة لا يعلم معناها وتأويلها ومرادفاتها واصلها وفصلها, أصيب الناس بالوسوسة أو بنوع من المس الجنوني وهيستيريا الفتوى في ما يعتقدونه دينا فكثرت اسئلتهم وفتاواهم, وكان المشايخ جاهزون بسبع قنوات فضائية للرد على أسئلة المشاهدين, فماهي الاسئلة التي تصدر المشايخ مجالس العلم والفتوى للرد عليها؟ هل يعتبر الشات على الانترنت خلوة شرعية؟ هل يجوز للمكوجي أن يكوي ملابس نساء سافرات متبرجات؟ العمل في البنك حلال أم حرام ماحكم خلع ملابس الأنثى أمام كلب ذكر؟، والاجابة ان هذا لا يجوز في حالة ما كان الكلب ذكر؟ ومن الممكن أن تكون هناك أكثر من فتوى على مسالة واحدة بل أن الشيخ نفسه قد يغير فتواه من قناة لأخرى ربما بسبب اتجاه هذه القناة ومرونتها وربما بسبب لون الأنتريه الذي يجلس عليه التحريم هو سلاح فقهاء الوهابية ولا مكان للاباحة مطلقا فالاباحة مرفوضة عندهم لأنها سوف تزيد المسلمين ردة وبعدا عن الاسلام كما أن سلاح التحريم سوف يتيح لهم تطويق المسلمين وربطهم بهم دائما أما الاباحة فسوف تجعلهم يتفلتون منهم وينطلقون في حياتهم 
وهكذا سيطرت القشور والهامشيات على مسلمين أيقنوا أن دخول الجنة بالعزوف عن الدنيا والاستداره لها, فهم غير معنيون باي من مشكلات الحياة التي يعانون منها لافرق عندهم بأن ياكلوا قمحا فاسدا أو مسرطنا, أوتسرق أموالهم وتهرب الى الخارج أو تباع اصولهم وشركاتهم وأراضيهم وهم شاهدون, فقد توجهوا نحو السماء واستوطنوها من الآن واستعجلوا نهايتهم التي هي طبعا الجنة كما يعتقدون كمن اتخذ عند الله عهدا !!!

 

استطاعت الوهابية السيطرة على عقل مجتمع يلعب فيه الدين الدور الأكبر ويعد المحرك الأول وربما الوحيد في حياته ومعيشته وذلك بعدة طرق منها بناء الاف المساجد من خلال تمويل أصحابها والقائمبن عليها الذين استقطبوهم اثناء تواجدهم أو زيارتهم للاماكن المقدسة خاصة من جماعات انصار السنة المحمدية والجمعية الشرعية والكثير من الاخوان والجماعة الاسلامية وغيرها من التنظيمات والافراد وزودت تلك المساجد بالمطابع واجهزة الاستنساخ وصناعة المواد الاعلاميةالهائلة, دعم العديد من معتنقي فكرها لفتح المكتبات ودور النشر والتوزيع وشراء معظم الاكشاك التي تنتشر في مدن مصر وقراها وزودتها بالملايين من الكتب والنشرات واشرطة الكاسيت التى اوصلها التكفيريون الى جميع الاكشاك والبيوت, وفتحت الوهابية اكثر من سبع محطات فضائية موجهة لمصر يشرف على تلك المحطات مصريون ممن يجيدون التضيل والتأويل وزرع التكفير والكراهية وقد تقمص اولئك المصريون الشخصة الوهابية شكلا ومضمونا بداية من العقيدة نفسها حتى الجلباب القصير والغترة واللحية الكثة ...


والأكثر من ذلك فقد حاولت الوهابية أن تقوم بعملية إحلال وتبديل للذوق والثقافة المصرية ومحو تراث المصريين القرآني وذلك بالانتشار الطاغي والسريع للمقرئين ذوي اللهجة السعودية والنبرة الوهابية العصبية المتشنجة على حساب قامات وقمم التلاوة في مصر والعالم أمثال الشيخ عبد الباسط عبد الصمد ... الشيخ المنشاوي ... الشيخ محمود خليل الحصري ... وغيرهم, هؤلاء الأعلام الذين كانوا يوما قرة عين العالم ومحط رحاله وانحنت لهم هامات الملوك والرؤساء إعظاما وتقديرا.

 

ولم تكتف بذلك بل دفعت ابناء هذا البلد يوما ما للجهاد في افغانستان بدعوى (الجهاد الاسلامي في مواجهة الالحاد الكافر) وسافر المسلمون زرافات الى أفغانستان في حرب كانوا يعتقدون أنها في سبيل الله وتبين لهم فيما بعد أنها حرب بالوكالة عن الجبش الامريكي في مواجهة حلف وارسو والاتحاد السوفيتي وقبل أن يفيقوا من الصدمة انهالت عليهم القذائف الأمريكية من كل اتجاه فهدمت البيوت على من فيها ولم ينج منها إلا من لجأ إلى المغارات والكهوف ومن وقع في الاسر اقتيد الى جوانتانامو ومن عاد إلى بلاده وجد ابواب المعتقلات والسجون مفتححة أمامه, واليوم تدفعهم الوهابية مرة أخرى للقتال في العراق لحساب الأجندة الأمريكية نفسها تحت راية أخرى (الجهاد الاسلامي في مواجهة الرافضة) ويعنون بهم الشيعة والآن يفترشون قاعدة كبيرة واسعة لشيوخهم وعلمائهم في كل بلد وقرية وعلى كل منبر ومسجد على أرض مصر, ويكثرون من الجمعيات والمستشفيات الخيرية التي تقدم العلاج للمرضى بالمجان مستغلين حالة الفقر التي يعاني منها الشعب المصري, كذلك فتح قنوات الاتصال بالناس في بيوتهم وأعمالهم حتى إذا اعتادهم الناس وألفوهم وتوثقت صلاتهم بهم لبوا نداء الجهاد وإحياء العمل بكتاب الله وسنة رسوله وتطهير الأرض من الشرك والاوثان والقبور والاضرحة حتى يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا, تماما كما قامت دعوة محمد بن عبد الوهاب الاولى في شبه الجزيرة العربية اذا لم يكن الدفاع عن الخط الرسالي لأنبياء الله ورسله الكرام وخاتمهم رسول الله (ص) ونهجه القويم وصراطه المستقيم كما دافع عنه وحافظ عليه شيوخ مصر الاجلاء وعلمائها الكرام على مر العصور واجب شرعي وفريضة لازمة على أولي الألباب وعلى كل مسلم ومسلمة, فليكن الدفاع عن البلد التي نعيش فيها وعلى مستقبلها وأمنها ووحدتها قبل أن تذهب من بين ايدينا.