بقلم: مروان سالم _ مصر 

المقدمة:

 

بعد الحمد لله والصلاة على رسول الله واله ومن والاهم ووالاه ,,
لاشك أن معرفة الجذور النفسية لنشأة أى فكر أو أعتقاد لجماعة أو فرد، يجعل تحليل هذا الفكر أقوى وأعمق من تحليل ظاهر الفكر نفسه دون التعرض لظروف نشأته ومتي نشأ وإين نشأ ؟
ولقد أبتُليت الأمة الإسلامية من بعد موت الرسول (ص) بإنحرفات عقدية وسياسية وفكرية كثيرة، كانت سبباً فى تخلفها عن الركب الحضارى المنوط بها في قيادة البشرية وتحقيق قول الله تعالى ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ).
وخطوط الأنحرافات العقدية والسياسية التى مرت بها الأمة منذ ضياع الإمامة وأغتصابها من آل البيت عليهم السلام وإستشهاد الأئمة عليهم سلام الله، كلها خطوط متشابكة لا يمكن فصلها السياسي منها بعيداً عن العقدي، فالإنحراف فى المفهوم العقدي نتج عنه واقع نكد تعيش فيه الأمة حتى هذه اللحظة .
ومنذ البداية كان هناك من يمكر بهذا الدين مكر الليل والنهار لكي ينحرف بوجهته الربانية، وهؤلاء الأعداء من يهود ونصارى ومنافقين لا يصرحون بالعداء في كل وقت، وإنما يدسون السم فى العسل للأمة كي تظل غارقة فى بحر الظلمات ولا تخرج من التيه الذي دخلته أول مرة .

 

وكان من مكر الليل والنهار لهذه الأمة أن تحارب حرب الدين بالدين، وهي الحرب التى تقضى على المعتقدات السليمة للأمة من خلال توجيه خطاب ديني منحرف ما أنزل الله به من سلطان، وكثير من الباحثين في تعرضه لنقد هذه المعتقدات المنحرفة يتعرض لمآلات وظواهر هذه الإعتقادات ولا يتعرض لأصولها ونشأتها، وهذا وإن كان جهد مشكور بلا شك ولكنه لا يقضي على الفكر ويُبيين عواره أو يستأصل جذوره، وفى هذا المقال نحاول بفضل من الله بيان الجذور والأصول النفسية لما جاء فى معتقد التجسيم عند ابن تيمية، ونأمل بذلك تسليط الضوء على هذه الجذور ومن أين جاء بهذه المعتقدات، وما هى الروافد الفكرية له ؟ ومن سبقه بالقول به ؟ وهل له سلف أم لا ؟
ابتداءاً سنتناول التجسيم عند اليهود والنصارى فى كتبهم المحرفة ثم نعرج على العلاقة بين إعتقادات هؤلاء وإعتقاد ابن تيمية الحراني .

 

إعتقادات اليهود والنصارى بالتجسيم :


ينسبون إلى الله تعالى الجلوس والقعود والاستقرار والثقل والوزن والحجم والعياذ بالله :
ففي نسخة التوراة المحرفة التى هى أساس دين اليهود فيما يسمونه "سفر الملوك" الإصحاح 22 الرقم "19-20 " يقول اليهود لعنهم الله:" وقال فاسمع إذاً كلام الرب قد رأيت الرب جالسًا على كرسيه وكل جند السماء وقوف لديه عن يمينه وعن يساره".
و فيما يسمونه سفر مزامير الإصحاح "47" الرقم "8" يقول اليهود لعنهم الله:" الله جلس على كرسي قدسه".

 

1- في نسبتهم الشكل والصورة إلى الله والعياذ بالله :


وصفوه زورًا وبهتاناً بالجسم والصورة والشكل وما يتبع ذلك .
فإنك تجد في نسخة التوراة المحرفة فيما يسمونه سفر التكوين الاصحاح الأول الرقم "26-28 " أن اليهود يقولون:" وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا على شبهنا... فخلق الله الإنسان على صورته على صورة الله خلقه ذكرًا وأنثى خلقهم"
و فيما يسمونه سفر التثنية الاصحاح " 4" الرقم " 15-16" يقول اليهود:" فإنكم إن لم تروا صورة ما في يوم كلَّمكم الرب في حوريب من وسط النار لئلا تفسدوا وتعملوا لأنفسكم تمثالا منحوتاً صورة مثال ما شبه ذكر أو أنثى"

 

2- نسبتهم الوجه الجارحة إلى الله والعياذ بالله :


ففي نسخة التوراة المحرفة فيما يسمونه سفر مزاميرالإصحاح "31" الرقم "16" يقول اليهود عن الله:" أضئ بوجهك على عبدك"
- وفيما يسمونه سفر مزامير الإصحاح "44" الرقم "3" يقول اليهود:" لكن يمينك وذراعك ونور وجهك"
- وفيما يسمونه سفر التكوين الإصحاح "33" الرقم "10" يقول اليهود:" لأني رأيت وجهك كما يرى وجه الله"
فيما يسمونه سفر التكوين الإصحاح "32" الرقم "30" يقول اليهود:" فدعا يعقوب اسم المكان فنيئيل قائلاً لأني نظرت الله وجهًا لوجه"
- وفيما يسمونه سفر التثنية الإصحاح "5" الرقم "4" يقول اليهود:" وجهًا لوجه تكلم الرب معنا في الجبل من وسط النار"

 

3- نسبتهم الفم واللسان إلى الله والعياذ بالله :


- في نسخة التوراة المحرفة فيما يسمونه سفر أيوب الإصحاح "37" الرقم " 2-6 " يقول اليهود لعنهم الله تعالى:" اسمعوا سماعًا رعد صوته والرمذمة الخارجة من فيه تحت كل السموات"

4- نسبتهم التغير والحدوث إلى الله وإلى صفاته والحركة والسكون والارتفاع والنـزول الحسي والكلام المخلوق والسكوت والعياذ بالله :
- ففي نسخة التوراة المحرفة فيما يسمونه سفر التكوين الإصحاح "11" الرقم "5" يقول اليهود:" فنـزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو ءادم يبنوهما"
- وفيما يسمونه سفر التكوين الإصحاح "46" الرقم "3- 4 " يقول اليهود:" فقال أنا الله إله أبيك .... أنا أنزل معك إلى مصر"
- وفيما يسمونه سفر خروج الإصحاح "19" الرقم "21" يقول اليهود:" لأنه في اليوم الثالث ينـزل الرب أمام عيون جميع الشعب على جبل سيناء"
- وفيما يسمونه سفر خروج الإصحاح "19" الرقم "21" يقول اليهود:" ونـزل الرب على جبل سيناء إلى رأس الجبل"
- وفيما يسمونه سفر خروج الإصحاح" 20" الرقم "10" يقول اليهود:" واستراح في اليوم السابع"
- وفيما يسمونه سفر زكريا الإصحاح "8 "الرقم " 20-23 " يقول اليهود عن الله:" أنا أيضًا أذهب"

 

5- نسبتهم المكان والجهة والحد والتحيز إلى الله والعياذ بالله :


فيما يسمونه سفر مزاميرالإصحاح "2" الرقم "4" يقول اليهود لعنهم الله عن الله:" الساكن في السموات يضحك الرب"
- وفيما يسمونه سفر التكوين الإصحاح "28" الرقم "16" يقول اليهود:"حقّاً إن الرب في هذا المكان وأنا لم أعلم"
- وفيما يسمونه سفر التكوين الإصحاح "18" الرقم "1" يقول اليهود:" وظهر له الرب عند بلوطات"
- وفيما يسمونه سفر زكريا الإصحاح "2" الرقم "13" يقول اليهود:" اسكتوا يا كل البشر قدام الرب لأنه قد استيقظ من مسكن قدسه"

 

هذه هي أعتقادات اليهود والنصارى فى الله عز وجل تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً
وهي ظاهرة الفساد منتشرة فى كتبهم المحرفة، ظاهر فيها بشكل جلي عقيدة التجسيم، ومع هذا يدافع عن اليهود وإعتقداهم إبن تيمية وتلاميذه، نعم يدافع عنهم ولا ينسب إليهم التجسيم وسنعرف سبب هذا الدفاع المستميت فيما بعد، وذلك بعد أن نستعرض أقوال ابن تيمية نفسه فى الدفاع عن اليهود .

 

يقول فى مجموع الفتاوى- جزء الأداب والتصوف ص 167


( وقد ذم الله اليهود على أشياء كقولهم : إن الله فقير وإن يده مغلولة وغير ذلك ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم قط إنهم يجسمون ولا أن في التوراة تجسيما ولا عابهم بذلك ولا رد هذه الأقوال الباطلة بأن هذا تجسيم كما فعل ذلك من فعله من النفاة )
ويصرح تلميذه ابن القيم في صواعقه المرسلة ما نصه :
 ( وهذا يدل على أن ما في التوراة من ذلك ليس هو من المبدل المحرف الذي أنكره الله عليهم بل هو من الحق الذي شهد للقرآن وصدقه ولهذا لم ينكر النبي عليهم ما في التوراة من الصفات ولا عابهم به ولا جعله تشبيها وتجسيما وتمثيلا     
كما فعل كثير من النفاة وقالوا اليهود أمة التشبيه والتجسيم ولا ذنب لهم في ذلك )
حقيقة لم أرى من قبل دفاع عن عقائد اليهود بهذا الشكل الغريب، ولكن كما يقال إذا عُرف السبب بطل العجب، وإن لك يكن اليهود الكفرة هم أكثر الناس افتراءاً على الله فى التشبيه والتجسيم فمن يكون غيرهم ؟
وما ورد في القرءان الكريم من الرد المتين عليهم حين نسبوا إلى الله التعب ثم الجلوس على العرش فقال عز من قائل وهو أصدق القائلين ( ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب ) هو كاف في إثبات أن اليهود هم أكبر المجسمة.
وقد بين الله سبحانه وتعالى ما تنطوي عليه عقيدة اليهود من تشبيه وتجسيم وهو اعتقادهم أن الله جسم قعد على العرش بعد أن تعب، فسبحانه ثم سبحانه، وإذا لم يكن قولهم هذا من أصرح الصريح في التجسيم فلا يوجد تجسيم قط !!!

 

اليهود والتجسيم :   


يقول الدكتور الشلبي في كتاب مقارنة الأديان ص 192 تحت عنوان : اليهود والألوهية عموماً :
" على أن مسألة الألوهية كلها، سواء اتجهت للوحدانية أو للتعدد، لم تكن عميقة الجذور في نفوس بني إسرائيل، فقد كانت المادية والتطلع إلى أسلوب نفعي في الحياة من أكثر ما يشغلهم، وإذا تخطينا عدة قرون فإننا نجد الفكر اليهودي الحديث يجعل لليهود رباً جديداً نفعياً كذلك، ذلك هو تربة فلسطين وزهر برتقالها، والذي يقرأ رواية : طوبى للخائفين للكاتبة اليهودية يائيل ديان ابنة القائد الصهيوني العسكري موشى ديان "أهـ
قال الدكتور أحمد شلبي في كتاب مقارنة الأديان 2 / 243، طبعة مكتبة النهضة المصرية 1973، تحت عنوان : الله عند اليهود :
( لم يستطع بنو إسرائيل في أي فترة من فترات تاريخهم أن يستقروا على عبادة الله الواحد الذي دعا له الأنبياء، وكان اتجاههم إلى التجسيم والتعدد والنقيصة واضحاً في جميع مراحل تاريخهم، وعلى الرغم من ارتباط وجودهم بإبراهيم إلا أن البدائية الدينية كانت طابعهم، وكثرة أنبيائهم دليل على تجدد الشرك فيهم، وبالتالي تجدد الحاجة إلى أنبياء يجددون الدعوة إلى التوحيد، وكانت هذه الدعوات قليلة الجدوى على أي حال، فظهروا للتاريخ بدائيين يعبدون الأرواح والأحجار، وأحياناً مقلدين يعبدون معبودات الأمم المجاورة التي كانت لها حضارة وفكر قلدهما اليهود .

ويقول : إن اليهود كانوا في مطلع ظهور التاريخ بدواً رحلاً تسيطر عليهم الأفكار البدائية كالخوف من الشياطين، والإعتقاد في الأرواح، وكانوا يعبدون الحجارة والأغنام والأشجار، ويقول : إن اليهود اتخذوا في بيوتهم أصناماً صغيرة كانوا يعبدونها ويتنقلون بها من مكان إلى مكان وقد ظل بنو إسرائيل على هذا الإعتقاد حتى جاء موسى وخرج بهم من مصر . ولكن بني إسرائيل كما يقول ول ديورانت  لم يتخلوا قط عن عبادة العجل والكبش والحمل، ولم يستطع موسى أن يمنع قطيعه من عبادة العجل الذهبي .
عبادة العجول كانت لا تزال حية في ذاكرتهم منذ كانوا في مصر، وظلوا زمناً طويلاً يتخذون هذا الحيوان القوي آكل العشب رمزاً لإلههم .
وتقرر التوراة قصة العجل الذي عمله لهم هارون فعبدوه بعد أن تأخر موسى في العودة إليهم، وكيف خلعوا ملابسهم وأخذوا يرقصون عراة أمام هذا الرب، وقد أعدم موسى ثلاثة آلاف منهم عقاباً لهم على عبادة هذا الوثن وقد بقيت عبادة العجل تتجدد في حياة بني إسرائيل من حين إلى حين، فقد عمل يربعام بن سليمان عجليْ ذهب ليعبدهما أتباعه حتى لا يحتاجوا إلى الذهاب إلى الهيكل وقد عبد أهاب ملك إسرائيل الأبقار بعد سليمان بقرن واحد) أ هـــ

 

هل دافع ابن تيمية عن أحد أتهم بالتجسيم من أهل السنة ؟


فى الإجابة على هذا السؤال أيضاً ومضة جديدة تدل أن الرجل كان يريد إعلاء مدرسة التجسيم ونشرها والترويج لها .
نعم دافع ابن تيمية عن مقاتل بن سليمان المجسم المعروف، فمن هو مقاتل ؟
قال الإمام الأشعري: (حكي عن أصحاب مقاتل أن الله جسم وأن له جثةً وأنه على صورة الإنسان لحم ودم وشعر وعظم وجوارح وأعضاء من يد ورجل ورأس وعينين مصمت وهو مع ذلك لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره (مقالات الإسلاميين152)
وحكى عنه - أي عن مقاتل - الشهرستاني أنه قال ( قد ورد في الخبر أن الله خلق آدم على صورة الرحمن فلا بد من تصديقه ) (الملل والنحل 178)
ومن مرويات مقاتل في التجسيم ما أخرجه الذهبي بسنده عن مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال: (إذا كان يوم القيامة ينادي مناد أين حبيب الله ؟ فيتخطى صفوف الملائكة حتى يصير إلى العرش حتى يجلسه معه على العرش حتى يمس ركبته) (ميزان الاعتدال 4/174 وهو خبر موضوع كما نبه عليه الذهبي)
ومن العجيب بعد شهرة نسبة التجسيم إلى مقاتل أن يحاول ابن تيمية إنكاره فيقول: (وأما مقاتل فالله أعلم بحقيقة حاله والأشعري ينقل هذه المقالات من كتب المعتزلة وفيهم انحراف عن مقاتل بن سليمان فلعلهم زادوا في النقل عنه أو نقلوا عن غير ثقة وإلا فما أظنه يصل إلى هذا الحد…ومقاتل بن سليمان وإن لم يكن يحتج به في الحديث لكن لا ريب في علمه بالتفسير وغيره) (منهاج السنة 2/618)
وهكذا ابن تيمية ينتصر دوماً للمجسمة من يهود وغيرهم .
 ولكن ما هو رأى علماء الحديث فى مقاتل ؟
وقال ابن حبان: (كان يأخذ عن اليهود والنصارى علم القرآن الذي يوافق كتبهم وكان مشبهاً يشبه الرب بالمخلوقين وكان يكذب مع ذلك في الحديث) (المجروحون 2/15 وانظر نحوه في التعديل والتجريح للباجي 1/197 والضعفاء لابن الجوزي 1/136 ووفيات الأعيان لابن خلكان 5/255)
وقال الذهبي: (وظهر في خراسان في قبالته مقاتل بن سليمان المفسر وبالغ في إثبات الصفات حتى جسم وقام على هؤلاء علماء التابعين وأئمة السلف وحذروا من بدعهم) (طبقات الحفاظ 1/159)
وبهذا يفتضح أمر ابن تيمية الحراني فى الأنتصار لمن هم على مذهبه فى التجسيم .
قبل التعرض للجذور النفسية التى جعلت ابن تيمية يقول بمعتقد اليهود والنصارى، سنتعرض لمحاولة الإختراق الأولى للمجسمة قبل ابن تيمية، لنكمل بعدها سلسلة المكر الذي بثه اليهود والنصارى ومن تأثر بهم فى معتقدات الأمة .

 

محاولة الإختراق الأولى :


بعد إنتشار الإسلام فى الجزيرة العربية وعلو رايته، لم يجد اليهود والنصارى بد من الدخول فيه ومحاولة هدمه من الداخل، وعملوا على محاولة نشر عقائدهم بين المسلمين لإفساد عقيدتهم بطرق مختلفة، خصوصاً التشبيه والتجسيم ومحاولة إهدار شأن الأنبياء، وكثير من الأحاديث المنسوبة إلى الرسول (ص) هى من إفتراء هؤلاء وإختراقهم خصوصاً وأنهم أُفسح لهم المجال لنشر هذه المفاهيم، فى الوقت الذى كان يُنهى عن تدوين أحاديث الرسول (ص)، يقول الشهرستاني : وضع كثير من اليهود الذين اعتنقوا الإسلام أحاديث متعددة في مسائل التجسيم والتشبيه وكلها مستمدة من التوراة - الملل والنحل 1/117، ويقال ابن خلدون : إن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية، وإذا تشوقوا إلى معرفة شئ مما تتوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى، مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم وتساهل المفسرون في مثل ذلك وملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات، وأصلها كلها كما قلنا من التوراة أو مما كانوا يفترون - مقدمة ابن خلدون 439 -
قال الذهبي : العلامة الحبر الذي كان يهوديا فأسلم بعد وفاة النبي، وقدم المدينة من اليمن في أيام عمر، وجالس أصحاب محمد، فكان يحدثهم عن الكتب الإسرائيلية ويحفظ عجائب، - إلى أن قال : - حدث عنه أبو هريرة ومعاوية وابن عباس، وذلك من قبيل رواية الصحابي عن تابعي، وهو نادر عزيز، وحدث عنه أيضا أسلم مولى عمر وتبيع الحميري ابن امرأة كعب، وروى عنه عدة من التابعين كعطاء بن يسار وغيره مرسلا، وقع له رواية في سنن أبي داود والترمذي والنسائي - سير اعلام النبلاء-3/489
و أحدث هذا الحبر وغيره كما فى النقولات إفساد رهيب فى عقائد الأمة وسرب من خلالها عقيدة التشبيه التجسيم .

 

عود على بدأ :


بعد أستعراض النقاط السابقة من محاولات الأختراق على يد الرهبان والأحبار التى نجحت فى إفساد عقائد الأمة، وبعد الإطلاع على عقيدة التجسيم عند اليهود والنصارى من كتبهم المحرفة، وأن هذه العقيدة نبعت من خلال تأثرهم بعبادة الأصنام التى أستقرت فى قلوبهم ورسخت فى نفوسهم، وبعد ما رأينا كيف يدافع ابن تيمية عن اليهود وعقيدتهم فى التجسيم، وعن مقاتل الذى أشتهر بين علماء السنة أنه من المجسمة، نستعرض الأن الجذور النفسية التى تأصلت  بسببها عقيدة التجسيم عند ابن تيمية وجعلته ينحى هذا المنحى، وكيف أن المنبع الفكري لليهود والنصارى هو نفس المنبع الذى أستقى منه ابن تيمية منهجه فى التجسيم، ويظهر جلياً أنها محاولة الإختراق الثانية التى جاءت لتستكمل مسيرة المكر فى إرداة الشر أن تنحرف هذه الأمة عقدياً بهذا الشكل الذي وصلنا إليه .

 

نشأة ابن تيمية  :


لاشك أن ظروف النشأة والتربية لها أثر عظيم فى مستقبل الفرد أو الجماعة، خصوصاً وأن النشىء يتأثر ببيئته المحيطه إجتماعياً وثقافياً وفكرياً، فإين نشأ ابن تيمية ؟
نشأ ابن تيمية فى بلدة حران، وسوف نستعرض الأن سريعاً ما هي حران، وكيف أثرت نشأته فى حران على فكره وأراءه .

 

حران :


حران تقع في أقصى جنوب تركيا والبلدة التي تقع جنوب دمشق تسمى حوران
تمتد من جبل الشيخ (حرمون) حتى الحدود الأردنية. تعد حوران أحد أهم المناطق الزراعية في سوريا، فهي تمتلك تربة خصبة جداً وأمطار وفيرة ساهمت في ازدهار زراعة القمح والشعير والحبوب. كانت حوران قديماً مقسمة بين الأنباط والرومان حتى عام 106 م، عندما توحدت تحت حكم الرومان الذين أطلقوا عليها اسم مقاطعة أورانتيس. دخلت المسيحية إلى المنطقة في القرن الثاني للميلاد وقامت فيها عدة مراكز دينية ازدهرت بشكل كبير قبل الفتح الإسلامي في القرن السابع .

 

حران مركز النصرانية والصائبة والفلاسفة :


كانت مركزا من أهم مراكز الثقافة الإغريقية السريانية قبل الإسلام
وبقي فيه بعض الصابئة حتى ما بعد خلافة المأمون،حكمها الآشوريون واليونان والفرس والرومان قبل أن يأخذها العرب صلحا
وقد عرفت حران عند الآشوريين باسم: "شاريا"، وعند اليونان باسم: "خاران وعند الرومان الغربيين باسم: "كاريا"، وعند الرومان البيزنطيين باسم: "هللينوبوليس وعند العرب الوثنيين باسم: "حران" أو "أران
كانت بحران مدرسة فلسفية توارثت علوم اليونان وقد قام عليها الصابئة،جاء الفتح الإسلامى انتشرت أفكار هؤلاء الصابئة الحرانيين وتأثر بهم من تأثر من من فلاسفة الإسلام، وكانت حران بمثابة قنطرة فكرية بين تراث اليونان الوثنى ثم النصراني إلى من عاش فيها من مسلمين وفلاسفة فتأثروا بهذا الميراث التراثي فكرياً .
وأعطى الكثير من المؤرخين والمفكرين المستشرقين والمسلمين لمركز حران دوراً عظيماً على الفكر الإسلامي، ربما لا ينافسه مركز آخر. وهناك من ظن بأن من أوائل الباحثين المعاصرين الذين عرفوا الصلة بين الحرانيين والفلاسفة العرب هو الدكتور جبور عبد النور، في بحث له في مجلة (الكتاب)المصرية عام 1946م، إذ اعتبر الفلاسفة العرب قد اقتبسوا من مدرسة الصابئة القسم الأعظم من مذهبهم في ما وراء الطبيعة، فضلاً عن العلوم الأخرى؛ كالفلك والهندسة وغيرهما -المدخل إلى الفكر الفلسفي عند العرب، الموسوعة الصغيرة (24)، وزارة الثقافة والفنون-
هي المركز الوحيد الذي ظل بعيداً لم يتنصر بالديانة المسيحية، وبعد ظهور الإسلام - وبالتحديد منذ خلافة المأمون - أطلق الحرانيون على أنفسهم إسم (الصابئة) واختاروه غطاءً دينياً يحفظ لهم وجودهم داخل الحضارة الإسلامية، كما نصّ على ذلك إبن النديم -إبن النديم: الفهرست، تعليق ابراهيم رمضان، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى، 1415هـ ـ1994م، ص389ـ -
ومع أن هناك من يعتبر مدينة حران لم تكن مركزاً فكرياً قبل زمن المتوكل إعتماداً على المسعودي الذي حدد إنتقال العلم إلى حران في زمن هذا الخليفة العباسي واستمر فيها لمدة أربعين سنة-صالح أحمد العلي: دراسات في تطور الحركة الفكرية في صدر الإسلام، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1403هـ ـ 1983م، ص126-
من خلال ما سبق يتضح لنا أن تأثر ابن تيمية الحراني فى كثير من المسائل، منها مسئلة التجسيم ناتج من تأثره ببيئته الحرانية التى كانت مستقر علوم النصارى والفلاسفة والوثنين قبلهم، وقد ورث ابن تيمية هذه العلوم كابر عن كابر من عائلته التى أشتهرت بالعلم الموروث من هذه الثقافات التي أثر فيها أصحاب العقائد المنحرفة، ولكل قوم وارث .

 

والأن علينا توثيق هذا الكلام من كتب ابن تيمية نفسه :


الفتاوى الكبرى - (ج 6 / ص 358))
(وكانت حران إذ ذاك دار الصابئة الفلاسفة الباقين على ملة سلفهم أعداء إبراهيم الخليل فإن إبراهيم الخليل كان منهم ودعاهم إلى الحنيفية من قصة ما ذكره الله في كتابه والحجة التي ذكرها مشركوا الهند)

 

الرد على المنطقيين - (ج 1 / ص 289))
(وكان دين المسيح لما دخل فيه طائفة من أهل حران وفيهم هيلانة الحرانية الفندقانية فهولها ملك الروم أبو قسطنطين فتزوجها فولدت له قسطنطين فنصرت ابنها قسطنطين وهو الذي اظهر دين النصارى وبنى القسطنطينية .)

 

الرد على المنطقيين - (ج 1 / ص 481)
(أخبرته بذلك وكثير منها صحيح كإخبار بدخول المسلمين بلاد حران وغيرها وفتحهم البلاد وإهانتهم لطائفته وكان بحران بئر يقال لها بئر (عزون) يعظمونها تعظيما كثيرا وكان يذكر أن الأرواح تجتمع إليها ويذكر أنواعا من هذه الأمور في مصحف له وهو موجود قد قرأته أنا وغيري )
وبهذه النقولات يقر ابن تيمية بنفسه بأن حران هى كما قلنا، وأنه كان يطالع كتب القوم وثقافتهم وتأثر بها بلاشك، بالإضافة أنه ورثها عن عائلته التي أشتهرت بما أشتهر به .

 

وتبقى النقطة الأخيرة، وهي أثبات أن ابن تيمية كان مجسماً فظاً، وإن كان فى دفاعه عن اليهود وتجسيمهم ودفاعه عن مقاتل الذي أشتهر بالتجسيم خير دليل ولكن تجليةً للبيان ورفعاً للإلتباس ننقل من كتبه مما جاء في القول بالتجسيم :

 

في كتاب " مجموع الفتاوى "- المجلد الرابع- ص / 374 لابن تيمية الحرَّاني يقول ما نصه:
" إن محمدًا رسول الله يجلسه ربه على العرش معه".

 

في كتاب " مجموع الفتاوى " - المجلد الخامس ص/527، وكتاب شرح حديث النـزول - طبع دار العاصمة ص / 400 يقول ابن تيمية
:" إذا جلس تبارك وتعالى على الكرسي سُمِع له أطيط كأطيط الرَّحل الجديد"

 

ففي كتاب " مجموع الفتاوى " - المجلد الخامس ص / 556 يقول ابن تيمية الحراني والعياذ بالله:" وجمهور المسلمين يقولون إن القرءان العربي كلام الله، وقد تكلم به بحرف وصوت"

 

في كتاب " الأسماء والصفات " لابن تيمية الحراني ص/ 91 يقول ابن تيمية:" فثبت بالسنة والإجماع أن الله يوصف بالسكوت لكن السكوت تارة يكون عن التكلم وتارة عن إظهار الكلام وإعلامه"

 

قال في منهاج السنة 2/563 :


" فهذا المصنف الإمامي - يقصد العلامة الحلي في كتابه منهاج الكرامة، الذي ألف ابن تيمية منهاج السنة رداًّ عليه - اعتمد على طريق المعتزلة ومن تابعهم من أن الإعتماد في تنزيه الرب عن النقائص على نفى كونه جسماً، ومعلوم أن هذه الطريقة لم ( يرد ) بها كتاب ولا سنة ولا هي مأثورة عن أحد من السلف، فقد علم أنه لا أصل لها في الشرع ... !! "

 

قال ابن تيمية في كتابه الذي سماه بـ التأسيس في رد أساس التقديس : (100/1) ما نصه:
(ولم يذم أحد من السلف أحداً بأنه مجسم، ولا ذم المجسمة)

و قال: ( إن الله تعالى في جهة واحدة هي جهة الفوق، وهو في السماء مستو على العرش وقد امتلأ به العرش فما يفضل منه أربعة أصابع، وإنه ينزل إلى السماء الدنيا ثم يعود، وإن له أعضاء وجوارح من أعين وأيدي وأرجل وغاية ما في الأمر أنها لا تشبه جوارح البشر وسائر المخلوقات )
(الحموية الكبرى: 15، التفسير الكبير 2: 249 - 250 منهاج السنة 1: 250، 260 - 261)

 

''..و معلوم أن الخلق كلهم ولدوا على الفطرة، ومعلوم بالفطرة أن ما لا يمكن احساسه لا باطنا ولا ظاهرا لا وجود له''.اهـ. ص46 التسعينية .

والأعجب من ذلك ما يرويه بن بطوطه فى رحلته قال ابن بطوطة الرحال في كتابة المشهور والمعروف بـ " رحلة ابن بطوطة " , المسماة " تحفة الانظار في غرائب الأمصار وعجائب الاسفار:
" وصلت يوم الخميس , التاسع من شهر رمضان المعظم , عام ستة وعشرين الى مدينة دمشق الشام
وكان بدمشق من كبار فقهاء الحنابلة تقي الدين ابن تيمية , كبير الشام , يتكلم في الفنون , إلا ان في عقلة شيئا , وكان أهل دمشق يعظمونة اشد التعظيم , ويعظهم على المنبر فحضرتة يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع , ويذكرهم , فكان من جملة كلامه ان قال : إن الله ينزل الى السماء الدنيا كنزولي هذا , وننزل درجة من درج المنبر , فعارضة فقية مالكي يعرف بابن الزهراء , وانكر ماتكلم به , فقامت العامة إلى هذا الفقيه , وضربوه بالايدي والنعال ضربا كثيرا حتى سقطت عمامتة ) أهـــ

أخيراً ... هل له سلف من علماء الإسلام قال بهذا :
إن القارىء الفطن، الذي قرأ فى كتب بن تيمية يلاحظ أمراً هاماً مكروراً فى كتابات الرجل، وهو أنه لا ينقل عن أحد سبقه وأنما يقول رأيه هو ويفرضه فرضاً دون أن يكون له سلف فيه، ولم يقل أحد من قبله بهذا الإعتقاد غير اليهود والنصارى والمجسمة الذين تأثروا بهم وبعقائدهم الوثنية .
أما كثير علماء السنة أنفسهم فرفضوا ما جاء به ابن تيمية، وسوف نسوق أمثلة على هذا :
قال ابن حجر في فتح الباري : 3/23 :
(استدل به من أثبت الجهة، وقال هي جهة العلو، وأنكر ذلك الجمهور، لأن القول بذلك يفضي إلى التحيز تعالى الله عن ذلك . وقد اختلف في معنى النزول على أقوال : فمنهم من حمله على ظاهره وحقيقته وهم المشبهة، تعالى الله عن قولهم ! ومنهم من أنكر صحة الأحاديث الواردة في ذلك جملة وهم الخوارج والمعتزلة، وهو مكابرة )
وقال ابي الحسن الأشعري:فى كتاب النوادر :  من اعتقد ان الله جسم فهو غير عارف بربه وإنه كافر به...
ونَقلَ ابنُ حَجرٍ الهيتَميُّ في كتابِه المنهَاج القَويم عن الأئِمّة تكفِيرَهُم للمُجَسِّم فقَالَ فيص (144)ما نَصُّه :
(واعلَم أنّ القَرافيَّ وغَيرَه حكَوا عن الشّافِعيّ ومَالكٍ وأحمدَ وأبي حَنيفَة رضيَ اللهُ عَنهُم القَولَ بكُفرِ القَائِلينَ بالجِهةِ والتّجسِيم وهُم حَقِيقُونَ بذَلكَ )
وذكر ملا علي القاري الحنفي في كتابه "شرح المشكاة"(137/2) :
(إجماع الأمة على كفر من اعتقد أن الله تعالى في جهة)
وقال الشافعي أيضا: "المجُسّم كافر" ذكره الحافظ السيوطي في "الأشباه والنظائر" ص (488)
وقال أحمد : "مَن قَالَ اللهُ جِسمٌ لا كالأجسَام كفَر" رواه عن الإمام أحمد أبو محمد البغدادي صاحب الخصال من الحنابلة كما رواه عن أبي محمد الحافظ الفقيه الزركشي في كتابه "تشنيف المسامع" (684/4)
والغريب ان ابن تيمية على مذهب احمد بن حنبل، ومع هذا يخالفه، وبحكم أحمد يكون ابن تيمية كافر .
وهذا ما جعل ابن تيمية يرمي أحمد بن حنبل بالكفر فى موضع أخر لأنه لم يوافقه فى طريقته فى التجسيم.

 

ابن تيمية وابن حنبل :


جاء في كتاب "زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور" لابن تيمية الحراني يُسأل السؤال نفسه الذى سُئل لأحمد ويُقال له (هناك عن الرجل يمس منبر النبي صلى الله عليه وسلم ويتبرك بمسه ويقبله ويفعل بالقبر مثل ذلك أو نحو هذا يريد بذلك التقرب إلى الله جل وعز، فيجيب ابن تيمية: هذا لم يفعله أحد من الصحابة ولا العلماء ولا السلف، بل هذا منهي عنه بالاتفاق بل هذا من الشرك - والعياذ بالله تعالى )
وهو بهذا الكلام يرمي أحمد بن حنبل بالكفر لأنه يعلم أن أحمد يجيز التوسل بما سماه هو شرك، ويعرف الفتاوى المشهورة لأحمد فى جواز التوسل بهذا وهى :
في كتاب "العلل ومعرفة الرجال" ج 2/35 لعبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل .. قال (سألته – يعني أباه الإمام أحمد – عن الرجل يمس منبر النبي صلى الله عليه وسلم ويتبرك بمسه ويقبله ويفعل بالقبر مثل ذلك أو نحو هذا يريد بذلك التقرب إلى الله جل وعز ... فقال – أي أبوه- : لا بأس بذلك)

 

و أخيراً ... مذهب أهل البيت عليهم السلام :


روى الكليني في الكافي 1/295 :
" عن أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، قال : سألني أبو قرة المحدث أن أدخله على أبي الحسن الرضا عليه السلام، فاستأذنته في ذلك فأذن لي، فدخل عليه، فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد، فقال أبو قرة : إنا روينا أن الله قسم الرؤية والكلام بيْن نبيِّيْن، فقسم الكلام لموسى ولمحمد الرؤية .
فقال أبو الحسن عليه السلام : فمَن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن والإنس : لا تدركه الأبصار، ولا يحيطون به علماً، وليس كمثله شئ، أليس محمد ! قال : بلى . قال : كيف يجئ رجل إلى الخلق جميعاً، فيخبرهم أنه جاء من عند الله وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله، فيقول : لا تدركه الأبصار، ولا يحيطون به علماً، وليس كمثله شئ، ثم يقول : أنا رأيته بعيني، وأحطت به علماً، وهو على صورة البشر ! أما تستحيون ؟! ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا : أن يكون يأتي من عند الله بشئ، ثم يأتي بخلافه من وجه آخر ؟!
قال أبو قرة : فإنه يقول : ولقد رآه نزلة أخرى .
فقال أبو الحسن عليه السلام : إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى، حيث قال : ما كذب الفؤاد ما رأى، يقول : ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه، ثم أخبر بما رأى، فقال : لقد رأى من آيات ربه الكبرى، فآيات الله غير الله، وقد قال الله : ولا يحيطون به علماً، فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم ووقعت المعرفة !
فقال أبو قرة : فتكذب بالروايات ! فقال أبو الحسن عليه السلام : إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها . وما أجمع المسلمون عليه أن لا يحاط به علماً، ولا تدركه الأبصار، وليس كمثله شئ " انتهى .
وقال محققه في هامشه :
" وقد أفرد العلامة المجاهد السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي قدس سره كتاباً أسماه : كلمة حول الرؤية فجاء شكر الله سعيه وافياً كما يهواه الحق ويرتضيه الإنصاف، ونحن نذكر منه بعض الأدلة العقلية منها : أن كل من استضاء بنور العقل يعلم أن الرؤية البصرية لا يمكن وقوعها ولا تصورها إلا أن يكون المرئي في جهة ومكان ومسافة خاصة بينه وبين رائيه، ولا بد أن يكون مقابلاً لعين الرائي، وكل ذلك ممتنع على الله تعالى مستحيل بإجماع أهل التنزيه من الأشاعرة وغيرهم .
ومنها : أن الرؤية التي يقول الأشاعرة بإمكانها ووقوعها، إما أن تقع على الله كله فيكون مركباً محدوداً متناهياً محصوراً يشغل فراغ الناحية المرئي فيها، فتخلو منه بقية النواحي، وإما أن تقع على بعضه فيكون مبعضاً مركباً متحيزاً، وكل ذلك مما يمنعه ويبرأ منه أهل التنزيه من الأشاعرة وغيرهم .
ومنها : أن كل مرئي بجارحة العين مشار إليه بحدقتها، وأهل التنزيه من الأشاعرة وغيرهم ينزهون الله تعالى عن أن يشار إليه بحدقة، كما ينزهونه عن الإشارة إليه بإصبع أو غيرها .
ومنها : أن الرؤية بالعين الباصرة لا تكون في حيز الممكنات ما لم تتصل أشعة البصر بالمرئي، ومنزهو الله تعالى من الأشاعرة وغيرهم مجمعون على امتناع اتصال شئ ما بذاته جل وعلا .
ومنها : أن الإستقراء يشهد أن كل متصور لا بد أن يكون إما محسوساً أو متخيلاً، من أشياء محسوسة أو قائماً في نفس المتصور بفطرته التي فطر عليها، فالأول كالأجرام وألوانها المحسوسة بالبصر وكالحلاوة والمرارة ونحوهما من المحسوسة بالذائقة . والثاني : كقول القائل : أعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد، ونحوه مما تدركه المخيلة مركباً من عدة أشياء أدركه البصر . والثالث : كالألم واللذة والراحة والعناء والسرور والحزن ونحوها مما لا يدركه الإنسان من نفسه بفطرته، وحيث أن الله سبحانه متعالٍ عن هذا كله، لم يكن تصوره ممكناً " انتهى . وروى النيسابوري في روضة الواعظين - 33 حديث أبي قرة المتقدم .
ورواه المجلسي في بحار الأنوار 4/36، وقال في ص 37 :
" قوله تعالى : ما كذب لفؤاد ما رأى، يحتمل كون ضمير الفاعل في رأى راجعاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وإلى الفؤاد . قال البيضاوي : ما كذب الفؤاد ما رأى ببصره من صورة جبرئيل، أو ما كذب الفؤاد بصره بما حكاه له، فإن الأمور القدسية تدرك أولاً بالقلب، ثم تنقل منه إلى البصر، أو ما قال فؤاده لما رآه : لم أعرفك، ولو قال ذلك كان كاذباً، لأنه عرفه بقلبه كما رآه بصره، أو ما رآه بقلبه والمعنى لم يكن تخيلاً كاذباً . ويدل عليه أنه سئل عليه السلام : هل رأيت ربك ؟ فقال : رأيته بفؤادي، وقرأ : ما كذب، أي صدقه ولم يشك فيه . أفتمارونه على ما يرى : أفتجادلونه عليه، من المراء وهو المجادلة " انتهى كلام المجلسي .
وبعد ... فإن المتتبع للجذور الفكرية لابن تيمية يعرف من أين جاء بعقيدة التجسيم، ومن سبقة بها، ولماذا أنتصر لهم، وما رأى أهل العلم بما جاء به، وما هو مذهب أهل البيت عليهم السلام وردهم علي المجسمة والمشبهه، ونسل الله القبول، والحمد لله رب العالمين .