بقلم: مروان سالم _ مصر

 

إهداء :


إلى من علمني معنى الحرية ، وأمسك لي بسلم الإنسانية وقال : أصعد وأرتقي وإياك أن ترجع  إلى الخلف أو تتوقف قبل الوصول ، ومد يده وخلع نظارتي السوداء وأسبغ عليً الضياء وقال : لابد أن ترى الحقائق بلا حائل أو ألوان ، إنه روح ملك فى بدن إنسان ، إنه الإمام الحسين (عليه السلام) .

 

في وقت يفتخر العالم فى ألفيته الثانية بقيام ثورات سُميت بثورات الربيع العربي ، كان لنا السبق أن سبقنا العالم الجديد بأكثر من ألف عام بقيادة الإمام الحسين بالثورة الحقيقة ، فثورة الإمام علمت الثوار على مر الزمان كيف يثوروا على الظلم ولا يقبلوا الضيم ، فما قامت إلا من أجل الإصلاح كما قال عليه السلام : ( أنما خرجت لطلب الإصلاح فى أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر )
وهكذا وضع الحسين عليه السلام حجر الأساس لكل ثورة تأتى من بعده ، ولم يُحقق فى التاريخ أنتصار حتى اليوم مثل أنتصار الإمام الحسين ، فحقيقة النصر هي ليس إلا تجلي للحق ومظهر له، وذلك أن الحق هو اسم من أسماء الله وبعض من حقائق القدرة الأزلية الأبدية، والله تعالى هو المنتصر والقاهر والمهيمن والمقتدر، فالحق منتصر على الدوام لأنه من إرادة الله وعدله فهو حقيقة ثابتة لا تبدل لها ، وأهل كربلاء حققوا هذا النصر بثباتهم على الحق الذى يظهر جالياً فى كلمة قالها علي بن الحسين عليه السلام عندما أعلمه والده الحسين عليه السلام أنه يقتل يوم غد مع باقي أهل بيته والأصحاب، فأجاب علي بن الحسين عليه السلام: "ألسنا مع الحق"؟ قال الحسين عليه السلام: "نعم"، فقال علي بن الحسين عليه السلام: "إذن لا نخاف، أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا"
ولكن ما يُميز نصر الثورة الحسينية أنها نصر أبديِ كتبته الدماء الطاهرة لم يضعف أو يفقد قوته بمرور السنوات بل يزداد قوة يوماً بعد يوم ، فهاهو موكب الشهداء لم يتوقف حتى اليوم من نفوس تعلمت من الحسين كيف تثور ، وفي الشهادة أكبر نصر ورضوان من الله أكبر ، فهنيئاً لمن نالها هنيئاً ، إن الذي صان الإسلام وأبقاه حياً حتى وصل إلينا هو الإمام الحسين عليه السلام الذي ضحى بكل ما يملك وقدم الغالي والنفيس، وضحى بالشباب والأصحاب من أهله وأنصاره في سبيل الله عزّ وجل، ونهض من أجل رفعة الإسلام ومعارضة الظلم. لقد ثار الحسين عليه السلام بوجه تلك الإمبراطورية التي كانت أقوى الإمبراطوريات القائمة آنذاك في هذه المنطقة، بعدد قليل من الأنصار، فانتصر وكان الغالب رغم استشهاده هو وجميع من معه ، وهكذا يكون حقق أكبر أنتصار فى تاريخ البشرية جمعاء .

إن الحسين (عليه السلام) مدرسة للإنسانية جمعاء وليست للمسلمين فقط ، عندما نتكلم عن الحسين نتحسس الكلمات والحروف ، فالكلام نفسه يعجز عن وصفه والحروف تتوارى خجلاً .

الحسين:

الحاء : هي الحقيقة المطلقة ، حقيقة الحياة ، الحياة الأبدية الحقيقة التى تمثلت فى شهادته التى قدم به دمه للأمه فداء ليعلمها كيف نحيا كراماً ، ويعلمها ماهية جديدة لحقيقة أنتصار الدم الطاهر على السيف الغادر ، حقيقة الإنتصار التى تجسدت في التمسك بالحق وعدم التفريط فيه ، حقيقة الحب الذي يغمرنا حتى اليوم بمجرد ذكر أسم الحسين .

 

والسين : هي سيوف الحق التى خلفها الإمام من بعده فى ذريته وشيعتهم يعلمون الناس الكتاب والحكمه ويشهرون هذه السيوف فى وجه أعداء الحرية للإنسان كل الإنسان ،في وجه هؤلاء الذين يريدون إستعباد البشرية والعودة بها مرة أخرى إلى الجاهلية الأولى ، من خلال إستعباد النفوس وإفساد القيم وتحريف حقيقة الدين ولىً أعناق الآيات لإسباغ الشريعة على النظم الجاهلية التى عادت مرة أخرى تستتر بأسم الدين وتفترى على الله الكذب ، ولكن هيهات هيهات وسيوف العزة التى خلفها الحسين مشتهره لم تغمد بعد ولن تغمد إلى يوم الدين ، وهذا لأنها قدر الله النافذ لحفظ هذا الدين من تحريف الغالين وإنتحال المُبطلين وتأويل الجاهلين ، سيوف من نور عُصمت من السماء لتقود هذه البشرية فى رحلتها الأخيرة على ظهر الأرض ، ولتكمل مسيرة طويلة قطعها الأنبياء على مدار تاريخ هذه البشرية التائه .

 

والياء : هي يأبى الضيم ويأبى الذلة ويأبى السكوت عن المنكر ويأبى ترك أمة جده محمد عليه وآله السلام أن تنحرف على يد الطلقاء والمنافقين ، ولكل قوم وراث ، فهناك من ورث الإباء للذلة والضيم وهناك من إستمرأ طعم العبودية وألفها وإعتادها ، ويريد أن يجبر البشرية على العبودية والدينونة لغير الله ، ولكن هيهات منا الذلة ، فمن قالوا لن نركع إلا لله ، هؤلاء لهم أسوة فى تاريخ الأئمة والشهداء عليهم السلام ، أما العبيد فلا يصنعون حضارة ، ولا عذر لضعيفهم ومستكبرهم يوم يتحاجون فى النار {وَإذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ *قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُلٌّ فِيهَا إنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} ، فما جاءت رسالة الله الأخيرة للبشرية إلا لوضع الأغلال والقيود التى كانت فى الرقاب ، فمن وضع هذه القيود فى رقبته مرة أخرى وأبى إلا اللحاق بقوافل العبيد، فهذا لم يعرف حقيقة الرسالة التى جاء بها محمد وأستشهد من أجلها الحسين سلام الله عليهم .

 

والنون : هو نور الله ، نور الله الذى ألقاه على الأرض لينير للبشرية طريقها إليه ، نور جاءت به الرسل والأنبياء والأوصياء والأئمة والشهداء ، نور الحجة الإلهية لهذا الكائن الرسالي الذى فضله الله على العالمين ، نور ولكن لا يراه إلا من أنار الله قلبه وبصيرته ، فكم من صاحب بصر لا يملك بصيرة وإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور ، نور الحسين قبسه من نور رسول الله اذ هو فى حقيقة قبسه  من نور الله .

( الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم ) 

نور يهدى الله به من يشاء إلى دار السلام ، نور الحسين لن ينطفأ ما دامت الأرض والسموات ، نور الشهادة والإباء ونور العلم الإلهي الذى جاء من السماء ليفتح للبشرية باب ترتقى فيه إلى ربها ويأخذ بيدها نحو القمة لتحقيق معنى العبودية لله والحرية من كل ما سواه ، ومن لم ير هذا الضياء فقد حُرم من النور الرباني وحُرم من أستنشاق عبير العزة الحقيقي ، فلئن تعيش لك جذور ضاربة فى أعماق الأرض متمثلة فى الأئمة والرسول ومن قبلها من سلاسل الرُسل ، خير لك بلا شك أن تعيش بلا جذور متنقل طيلة حياتك بين أقوال كذبتها الأفعال أو أحداث تاريخية مزورة لعبت بها أيدى خفيت منها أكتر مما أعلنت ، وكذبت أكثر مما صدقت وكانت تكتب إرضاء لأهواء البعض ممن لهم النفوذ ، وكما قال الشاعر :

 

هداك الله يا تاريخ يا شيخ الأضاليل ***** فما أقدر كفيك على نسج الأباطيل
تحابي الحي أو تظلم يا تاريخ أحيانا ***** فما مثلك مأمون على أخبار موتانا

 

( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)

وجاءت محاولات كثيرة على مرة التاريخ تحاول بكل قوة أن تطفىء النور الحسيني ، تحاول إخفاء ضياءه عن البشرية كي لا تتعلم كيف تثور على الطغيان ، كيف تنهض فى وجه الباطل ، وكيف تنتصر بدماءها الطاهرة على سيوف غادرة ، بدأت هذه المحاولات يوم أستشهد الإمام وظنوا أنهم أنتصروا ، ولكن كانت فى دماءه الطاهره حياة لأمة تولد من جديد لتقف فى وجه الطغاة على مر العصور ، كانت فى دماءه سلام الله عليه الفداء للأمة بأسرها أن تعود فى الجاهلية مرة أخرى ، فلو لم تراق هذه الدماء ورجع الحسين عما أراد لكانت الشرعية للظالمين أستتبت وأستقرت إلى يومنا هذا ، ولكنه أبى إلا أن يشهد بدمه لأمته أن دين الله أغلى من كل شىء ، فإنهالت الدماء لتكتب قصة خلود لأمة بأسرها وتعلمها كيف تحيا بالعزة ولا تركع إلا لله .


يوم انتصر الدم الطاهر على السيف الغادر ، هو يوم من أيام الله ونحن مطالبون بالتذكير بأيام الله

﴿ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن اخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ﴾

والمقصود من أيام الله كما يفسرها سيد قطب : ( وكل الأيام أيام الله ، ولكن المقصود هنا أن يذكرهم بالأيام التى يبدو فيها للبشر أو لجماعة منهم أمر بارز أو خارق بالنعمة أو بالنقمة )

 

والتذكير بيوم انتصار الدم على السيف فيه ربط للأمة بتاريخها الحقيقي ، وفيه إعلان وتذكير بالعبرة وتمسك بالهوية ، وفيه تخليد للحقيقة التى حاول البعض تحريفها وكتمها ولكن هيهات فالحقيقة لا تموت ، وفي التذكير بيوم أنتصار الدم على السيف تخليد لبطولة لا أقول يفتخر بها أهل الإسلام فقط ، بل تفتخر بها البشرية جمعاء ، فهي المحاولة الرائدة الأولى للتصدى للطغيان ولم يقم أحد بمثل ما قام به الإمام الذى قدم روحه للحفاظ على أمته ، فلابد للأمة أن تعرف تاريخها وتتمسك به  وتحافظ على هويتها ولا تفرط بها .