بنورك اهتـــدت روحي
بقلم: السيد حسن آل البيومي _ لبنان
عندما يعرج الموالي بروحه إلى عليائهم، قاصداً سنا نورهم، ملتمساً جزيل عطائهم، وارداً سلسبيل معينهم، سالكاً طريق الإنعتاق الحقيقي استجابة ًلداعي الله (( قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى )) شورى23، فإنه بلا ريب سيحيى ريَّانَ بماء ولايتهمُ النورانية و يتغذى من شجرتهم الطيبة ذات القطوف الدانية التي (( أصلها ثابت و فرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها )) ..
و ما ذلك إلا رحمةً به و رفقاً بروحه التي تتطلع بشوق إلى كمالها .. ألا ترى أيها العزيز إلى قوله تعالى: (( و ما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين )) ..
فالرحمة لا تزال تغشانا بفيئ ظلِّ محمد وآل محمد (ع).
و قد استوقفتني البضعة الزكية عليها ألف سلام و تحية في هجرتي إلى الثقلين لتميط عني حرّ نار تلظى وتدفع إلي بالمقابل كساء التطهير لترفع عني ما علق بي من أدران الجاهلية.. و قد كان قلبي مظلماً يحتجب وراء ستار الغاصبين و يتقنع بوشاح المفسدين الحاقدين إلى أن صدع بكاء الزهراء آذان الفؤاد، و غار نشيجها في الأحشاء كالأوتاد، فانتبه القلب الغافل و فطن أن عليه أن يلتحق بركب سفينة النجاة و أن يقر بالموالاة لنجيبة الرحمن وقرة عين النبي العدنان و عقيلة سيد الإنس و الجان و أم الأئمة الأطهار سدنة آيات القرآن.
ثم إن أول ما لاح لي من نورها خطبتها روحي فداها، و من دون السؤال عن سندها أقررت ببيانها (ع) و أذعنت أن بلاغتها ما كانت لتخرم بلاغة أبيها (ص) .. أليس هو القائل فيها: إن فاطمة إبنتي خير أهل الأرض عنصراً وشرفاً وكرماً (فرائد السمطين - ج2 / ص 68 / ب 15).. وإذا كانت (خير أهل الأرض) فهي الأكمل من كل شيئ.. ببيانها و بلاغتها و صدق منطقها، و قوة حجتها التي تلوي أعناق الرجال و تأخذ بأيديهم إلى حيث يريد الحق سبحانه وتعالى.. و حيث إن سلطان الحق يعلو و لا يعلى عليه، و حيث إن الزهراء (ع) مثلٌ لنور الحق على الأرض و كلمته الناطقة بالحق.. تدور مع الحق و الحق يدور معها.. فإنها لن تسكت عن ضيم و لن تهضم مرارة الظلم، بل باستبسال ليس بعده و جهد ليس مثله نراها عليها السلام قد أبت إلا أن تكون كعبة الحق و عنوان الصدق، و طبعاً حتى لا يتسنى للقارئ أن يفكر و لو للحظة أنها (ع) خرجت بدون إذن عليٍّ (ع) فليكن مطمئناً أن أهل بيت النبوة {عبادٌ مكرمون، لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون} أنبياء 26/27..
ولكن للسائل أن يسأل:
ما كان سبب خروجها (ع) ؟
وما هي الأهداف التي رمت لتحقيقها؟...
هل فقط للمطالبة بفدك و العوالي مما كان لها من أبيها (ص) ؟
أم هناك ما هو أدهى و أمرّ ؟..
ولمعرفة الإجابة على هذه التساؤلات علينا الرجوع إلى خطبتها عليها السلام و الإستفادة من الحقائق التي تزخر بها، و التي تزدحم على باب أهل الجور فلا تجد من يستمع القول فيتبع أحسنه، ولا تهتدي لسبيل تنفذ من خلاله إلى ألبابهم و أفئدتهم ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون...
ألم يذعنوا لإمامهم بالأمس.. ألم يقدموا عقد الولاء بألسنتهم:
هنيئاً لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولانا و مولى كل مؤمن و مؤمنة، فما عدا مما بدا .. ولذلك حين يفرض الظلم نفسه.. حين تنتهك الحرمة.. حين يقصى وجه الله الذي منه يؤتى.. حين يقذف حصن الله بمكائد حقدهم و حسدهم و مكرهم و بغيهم.. حين تشن الحرب على الإسلام المحمدي الذي قامت دعائمه و استقامت دولته بمنعة أبي طالب و سيف علي..
حينها لا يبقى للزهراء (ع) بدٌّ من الدفاع عن إمامها، هذا من جهة و من جهة أخرى لتضع الناس بين أمرين:
بين أن يتحاكموا إلى الطاغوت و قد أمروا أن يكفروا به و بين أن يردوا كوثر (الشرف من هاشم و البقية من إبراهيم و النهج من المنبع الكريم و النفس من الرسول و الرضى من الله) (مشارق أنوار اليقين - ص114/117)، وفي ذلك الحجة البالغة ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حيَّ عن بينة..
إذن فالزهراء (ع) في مقام الدفاع المشروع و خير مقام لها أن تقول كلمة حقٍّ في وجه سلطان جائر.
فهلمّ بنا أيها العزيز نأوي إلى كهفها ينشر لنا ربنا من رحمته و يهيئ لنا من أمرنا رشداً..
ولما كان الجرح لم يندمل، وعهده (ص) بالإرتحال عن الدنيا قريب فتذكيرها بشخصه صلى الله عليه و آله في بداية الخطبة مما قد يثير أشجان القلوب، و يجلو عن أفئدتهم الكدورات الحاصلة لها فتصفو مرآة قلوبهم لاستقبال البيان الفاطمي .. فالرسول الأكرم (ص) كان وثيق الصلة بكم، أحرص عليكم من أنفسكم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم .. لقد أنقذكم من نار جهلكم و سعير شرككم و أخرجكم من دامس ظلام ليلكم إلى نور التوحيد وعز الإسلام.. و بعد أن كنتم أذلاء يأكل القوي منكم الضعيف، أفاء عليكم نعمة الإيمان فأصبحتم بنعمته إخواناً و لكن من يشكر؟ فقليلٌ من عباديَ الشكور..
لقد استنهض هممكم و أجرى في عروقكم كلمة (لا إله إلا الله) ففتحتم بها الفتوحات و ملكتم بها الدنيا، كل ذلك لتكون كلمة الله هي العليا و لتشملكم رعايته سبحانه و تعالى في دولة التوحيد و العدل ..
وليس ذلك فقط فهمّه الأوحد (ص) أن تتعلق أرواحكم بالملأ الأعلى فتستقبل الفيوضات العلوية ممتثلةً للأوامر المقدسة الصادرة من الذات العلية.. ولكن أنّى لكم و قد انقلبتم على أعقابكم و بدلتم نعمة الله كفراً فجحدتم ولاية من سبق له من الله تعالى الفضل و الإيمان و من له في رقبة كل منكم حق معلوم ألا و هو عليٌّ الكرار..
أما جهاده (ع) فقد عرفه أهل السماء كما عرفه أهل الأرض و هو نتيجة إيمانه المتوقد الجياش الذي لا يعرف الخمود إليه سبيلاً.. نتيجة إخلاصه و فنائه في الله و قربه من رسول الله (ص)، و هنا لا بدّ للزهراء (ع) من المقارنة بين النموذج العلوي العسكري الذي سطرته آيات المجد فاستقر في سجل الخلود باعثاً في ضمير كل حيٍّ على امتداد الأجيال صدى كلمات السماء (لا فتى إلا علي و لا سيف إلا ذو الفقار)، و بين من هم (في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون) (الخطبة) أبناء السلطة الجائرة الفارين من الزحف يوم أحد و خيبر و حنين، و الطاعنين في إمرة أسامة المتلكئين عن نصرته.. وكأن الزهراء (ع) تتساءل:
كيف تقلب الموازين؟ أو كيف للمستبد بزمام هذا الأمر أن يكون بهذا المستوى من الجبن و التخاذل؟
لقد رافق الرسول الأكرم (ص) عقدين من الزمن فهلا استقى من شجاعته (ص) ما يحفظ به مروءة وجهه؟.. كلا، إن الأمر أخطر من ذلك.. إنها لمؤامرة رهيبة عكفوا على إبرامها منذ كان سيد البشرية (ص) يكابد آلام المرض زاعمين خوف الفتنة (ألا في الفتنة سقطوا و إن جهنم لمحيطة بالكافرين..) لقد كشفت الزهراء (ع) ألاعيب هذه الحكومة و أهدافها التي لا تمت إلى الشرع المقدس بصلة، و أزاحت النقاب عن اجتهاداتهم الفاسدة الضالة..
والبتول (ع) عندما تحدث هذه المقارنة الآنفة الذكر بين عليٍّ (ع) و بين أرباب السلطة لا تكتفي بذكر شجاعة و بطولة الإمام فحسب، فإلى جانب كفاءته العسكرية هناك كفاءة من نوع آخر تحتاجها أي حكومة لضمان نجاحها و تقدمها، ألا و هي تفوقه في كافة العلوم القرآنية منها و السياسية، القضائية والإقتصادية والإجتماعية.
و لذلك كان من بعض أقوالها (ع): (أم أنتم أعلم بخصوص القرآن و عمومه من أبي و ابن عمي؟). وقولها: (و أبعدتم من هو أحق بالبسط و القبض).. و من كان عنده علم الكتاب لا يقاس بمن لا يعرف الكلالة أو غيره ممن هم عيال عليه في العلم، أو بتعبير إبن عباس: ما علمي و علم الصحابة في علم علي (ع) إلا كقطرة في سبعة أبحر (الصراط المستقيم - ج1 - ص 226)..
إذن لقد أوضحت الزهراء (ع) أن (علياً) عليه السلام هو أجدر الناس بعد أخيه (ص) بمنصب القيادة الرشيدة للأمة لأسبقيته و جهاده و سعة علمه و معرفته بأحكام الرسالة و قوانينها، و بالتالي فمن هو من رسول الله (ص) (نفسه) فهو المؤتمن لصيانة الوحي المقدس من الدنس.
وهنا وفي خضم مواجهتها (ع) و تدليلها على سقوط شرعية هذه الحكومة نراها تتحول (ع) إلى ذكر ميراثها من رسول الله (ص) وما كان من أمر اغتصاب حقها و ذلك كدليلٍ آخر على استبدادهم وإلغائهم جميع امتيازات بني هاشم المادية و المعنوية.
فسيّدة النساء (ع) و إن كانت تطالب بحقها المغصوب و هذا عين الشرع بدليل قوله تعالى {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم}، إلا أنها عليها السلام من تعب هذه الدنيا في راحة.. لماذا؟
لأنها المعصومة التي ليس للذائذ المادية عندها حساب، ولأنها المربية الروحية الخالدة التي استشهدت في سبيل انتصار الروح العاقلة على المادية الشيطانية استكمالاً للمسيرة التي بدأها العقل الأول صلى الله عليه و آله و سلم.
إذن فالقول السديد في قضية الميراث أن الحوراء الأنسية (ع) إنما طالبت بفدك كمدخلية للمطالبة بأرض الخلافة الإسلامية، أو قل إن فدك باتت تختصر رقعة الخلافة بحدودها ككل رغم تقدم الزمان و اتساع المكان.
و لذلك فالزهراء (ع) في صدد الدفاع عن حق زوجها (ع) و عن حقوق بني هاشم و ليس لها في فدك أي مآرب شخصية..
وقد قدمت للأجيال نموذجاً رائعاً فذاً من الحجج والبراهين القرآنية أبانت فيها هشاشة ووهن الخليفة الأول والذي بات في حيرة من إمره خلص معها إلى الكذب و الإفتراء على رسول الله (ص)، فكانت (ع) كلما حملت عليه من الكلام الغليظ و القول الشديد تراه يذوب رقة و ليناً و خضوعاً وهذا لعمري من شدة مكره و دهائه و التفافه على خصمه ولكن {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}.
إن الحديث عن الزهراء (ع) حديث أهل الأرض و السماء لأن نورها زهر لجميع العوالم العلوية منها والسفلية فاستضاءت تلك العوالم بنورها، و ارتوت من معينها كيف لا؟ و نورها من نور عظمة ذي الحضرة الجلالية (معاني الأخبار - ص 64)..
فبعداً لقوم ظلموك و لم يروْا نورك.. أما أنا فأغدو إلى كوثرك سيدتي.. أطفأ ظمئي بكأسك الأوفى.. فيجيئني النداء:
إنك لن تظمأ بعد ذلك أبد، فيطير قلبي فرحاً ويرتجز لساني قائلاً:
بنورك اهتـــدت روحــــــــــــــــــي..
وسمـــــــــــــا بقــــــــــــلبي ودُّك..
فتطلع إلى مقامـــــــك العـــــلويِّ..
يا من ســـناك من سنا الإلـــــــه..
تفرع لهفي عليك زهراءُ سيدتي..
فحزنيَ سرمدٌ وفي نفسي توجُّع..
أرجو بهما شفاعة يوم اللقـــــــا..
يوم لا ينفع المرء دون الآل تضرع.
2021-04-05