بقلم: السيد باسل بن خضراء الحسني 

 

 

الحمد لله بجميع محامده كلها على جميع نعمه كلها والصلاة والسلام على اشرف الخلق سيدنا محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والرسل وعلى آل بيته الطيبين الغر المحجلين
قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) : (إن لقتل الحسين (عليه السلام) حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً ). مستدرك الوسائل: ج 10، ص 318


الثورة بمعناها العام هي الانقلاب على وضع أو نظام قائم بالقوة بهدف تغييره .أي هي حركة لإحداث التغيير تصحيحا لانحراف في مسار الأمة أو تصويبا لبوصلة الحراك العام باتجاه مصلحة الأمة وطموحاتها وذلك وفق منظومة فكرية راشدة تعي طبيعة الظروف وتمتلك أهلية قيادة جموع الناس وبذلك تختلف عن التمرد والعصيان التي يقودها شواذ الناس وتبغي الفساد والتفرقة. من هذا المدخل نلج إلى مضمون البحث وتناول تداعيات ثورة الإمام الحسين "ع" وأهمية إحياء المراسم الحسينية على أنها شعائر متصلة بالإسلام فكرا وعقيدة ومنهجا وتراثا ونفهم دواعي منع إحياء هذه المراسم من قبل سلاطين الجور والظلم .. والبداية من تعريف الإمام الحسين "ع" لا بعاد حركته ونهضته وأهدافها " أﻻ والله لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا ظالما ولا مفسدا وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق، فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا، اصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم الظالمين.

" وقوله " أيها الناس إني سمعت رسول الله يقول: من رأى منكم سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله، ناكثا بيعته، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير بفعل أو قول، كان حقا على الله أن يدخله مدخله، وما كان في عهد الإمام الحسين لم يكن مسألة خلافية جزئية تنطوي على ظلم أو تجاوز محدود بل كان الردة عن الدين والتي شخصها الإمام "ع" بقوله " ألا وأن هؤلاء قد تركوا طاعة الرحمن، وأطاعوا الشيطان واتخذوا مال الله دولا وعباد الله خولا " ولذلك فإن واقعة الطف على قصر مدتها كانت من أعظم حوادث التاريخ ومعلما بارزا لأنها جسدت بكل وضوح تلك الجدلية بين متناقضات الحياة، الخير والشر، الواقعية السياسية والمثالية الأخلاقية، السقوط والسمو، الجاهلية القبلية والفكر العقلاني الرسالي. كما وامتلكت من القوة وأهلية البقاء كحالة معرفية ووعي ممزوج بالحزن والأسى ومؤطر بروح الفدائية والثورة ولتتم بذلك صياغة حالة ثقافة ﻷنصار أهل البيت "ع" وثورة الإمام الحسين "ع" كانت على مستويين:


الأول: يتمثل بالسلطة الحاكمة المستبدة
الثاني: هو جموع الناس الخانعين والمقهورين أتباع كل ناعق .


إذ استطاعت روح الجاهلية وعقليتها التسرب عبر الزمن من إيجاد حاضنة لها من أنصار ودعاة وأن تعود مجددا ممتلكة السلطة والقوة متدثرة بعباءة الإسلام ولتصل إلى مقام قيادة الأمة وليصبح أكابر الجاهلية خلفاء وأمراء تسلطوا على مقدرات الأمة وتحكموا بمصيرها وعملوا على تقسيمها وفرط عقد وحدتها، فالإسلام أضحى مطية للوصول للسلطة والتحكم برقاب العباد مثقلين كواهلهم بالظلم والعسف متتبعين معارضيهم يقتلونهم بالظنة والتهمة وإزاء هذا الوضع لاذ الكثير من الصحابة بالصمت والسكينة مبايعين خاضعين لسلاطين الجور والفجور

هنا نصل إلى سبب التشدد والإصرار بأن ينزل الإمام "ع" على حكم أمير الكوفة وأن تؤخذ منه البيعة ليزيد بن معاوية بأي ثمن وتحت أي طائل ولو كان دون ذلك القتل ﻷن بيعة الإمام "ع" تختلف عن بيعة عامة الناس نظرا لمقامه وموقعه ويزيد يحتاجها لإضفاء الشرعية على حكمه وسلطانه، فاﻹمام "ع" يمثل مرجعية الدين وولايته واجبة وببيعته ليزيد لن يتردد بقية أهل البيت وأنصاره بالبيعة أسوة به واقتداء وفوق كل ذلك عندما تحصل البيعة قهرا فهي رسالة واضحة من جانب السلطة بأنها لن تتورع عن انتهاك أية حرمة من أجل الحكم، فمن يتطاول على سبط النبي "ص" سيكون تطاوله على غيره أيسر وأكثر احتمالا. وهذا ما قاله عبدالله بن مطيع للإمام "ع" وهو في طريقه قاصدا الكوفة : ' فوا الله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك، ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحدا أبدا'
في هذه الظروف الدقيقة والعصيبة جاءت نهضة الإمام الحسين "ع" ليس من قبيل الاستجابة لرسائل وصلته من أهل الكوفة بعد موت معاوية وحسب فهو أدرى بأهل العراق وشؤونهم فهم أصحاب أبيه وأخيه "ع" المنقلبون عليهما ذلك الوقت، فالنهضة الحسينية هي ثورة حقيقية جاءت لتصحيح المسار وكشف الفساد وإنقاذ الدين وإقامة الحجة ولتنزع الشرعية من الانقلابيين المغتصبين لخلافة رسول الله "ص" . وهي حكمة الله سبحانه أن ادخر الإمام الحسين "ع" إلى زمن عصيب تسير الأمة فيه أشواطا نزولا بدرجات الانحراف والفتنة والتشوش وليكون دمه الطاهر قربان تطهير وتصحيح المسار وإحياء منهج الرسالة ..و يقول الإمام "ع": ألا ترون أن الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقا . فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما " وهو "ع" في موقفه لا يهادن على حساب دينه وحقه من مقام الضعف والتخاذل فيقول: " لا والله لا أعطيهم إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد " ورغم معرفته بأنه يقينا مقتول وكذلك صحبه لم يكن الشك يخامرهم بذلك ولكنهم وطنوا أنفسهم على منهج الرسالة لا يحيدون عنه ولو كان دون ذلك إزهاق أرواحهم قال تعالى " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين "

 

ولسنا نبالغ في شيء بأن السلطة الحاكمة ما كانت تخشى الإمام الحسين "ع" في حياته وحسب بل حتى بعد استشهاده المبارك ذلك بما يمثله من إرث جهادي ولذلك سعى الجهاز الإعلامي الأموي ودعاته ومن بعده العباسي في ترويج مفهوم مشوه ومنحرف للثورة ليكون نظير ما يقوم به أئمة أهل البيت "ع" وأنصارهم من إحياء للمراسم الحسينية من خلال جملة من المظاهر واﻷفعال منها :
-العمل على تبرئة يزيد بن معاوية من دم الحسين "ع" وحصر الإدانة برجال النظام وبالذات أمير الكوفة عبيد الله بن زباد وعمر بن سعد والشمر ذي الجوشن وسواهم كأفراد وليس كمنظومة حكم متكاملة ومن أمثال الدعاة القائلين بذلك ابن حجر الهيثمي، عبدالله بن زهير بن علوي الحربي
-تشويه الثورة عبر طروحات مختلفة:


وصف الإمام الحسين "ع" بأنه طالب للملك والسلطان ﻹ فراغ الثورة من مضمونها العقائدي الرسالي وصبها في قالب الغاية الشخصية كما يذكر احد الكتاب المصريين واسمه عثمان محمد علي في احدى مقالاته :
{ لا اريد أن أدخل فى اسباب ذهابه للعراق ( الامام الحسين )، وخيانة العراقيون، له لأننا كُلنا نعرفها ونحفظها، ونعرف ما ذكره التاريخ عن تفاصيلها حق المعرفة ..ولكن ما نتناساه جميعا انها كانت من أجل إستعادة المُلك والعرش، او على الأقل إقتسامه بينه وبين يزيد كما كان بين (على، ومعاوية) } .

 

تصوير الإمام "ع" على أنه مصاب بحالة من الإحباط واليأس لأنه لم يوفق في تحقيق غايته بالسلطة ولذلك قاد معركة انتحارية كان يعلم مسبقا أنه لا يملك إمكانية النصر فيها تلفيق أقوال نسبوها زورا إلى الإمام الحسين "ع" من جملتها أنه قال لعمر بن سعد " اذهب بي إلى يزيد أضع يدي في يده " والحقيقة الثابتة أن الإمام "ع" قال: إنا أهل بيت النبوة، بنا فتح الله، وبنا يختم، ويزيد شارب الخمور، وراكب الفجور، وقاتل النفس المحرمة، ومثلي لا يبايع مثله" وبذلك يؤكد امتناعه لبيعته وضرورة الثورة ورب قائل منهم أن الحسين "ع" وأنصاره إنما هم متمردون على السلطة الشرعية المتمثلة " بخلافة وإمامة" يزيد الذي اجتمعت عليه إرادة الأمة في مقاربة وقحة لما كان عليه الخوارج وهذا التوجه بدأ به عبيد الله بن زياد إعتبارا من وصوله إلى الكوفة أميرا وتمكن بذلك من تفريق الناس ودفعهم لخذلان مسلم بن عقيل رسول الإمام الحسين "ع" وفي كتاب "السر المكنون "يقول ابن الجوزي :" من الاعتقادات العامة التي غلبت على جماعة المنتسبين إلى السنة أنهم قالوا : كان يزيد على الصواب والحسين مخطئ في الخروج عليه ... وقال الشوكاني : لقد أفرط أهل العلم فحكموا بأن الحسين السبط رضي الله عنه وأرضاه باغ على الخمير السكير الهاتك لحرمة الشريعة المطهرة يزيد بن معاوية لعنهم الله ..فيا للعجب من مقالات تقشعر منها الجلود .و يتصدع من سماعها كل جلمود "
وهذه عينة من بعض المقالات في شأن ثورة الامام الحسين "عليه السلام "
(( انا عن نفسى قلتها في المقالة،وأقولها مرة أخرى انا لا أعلم الغيب، ولا أعلم سريرة الحُسين حين كان يُقاتل جيش يزيد، هل كان يُقاتل في سبيل الله،ام في سبيل التاج ؟؟، وبالتالي لا أظلم نفسى،وأعوذ بالله من أكون من الجاهلين وأتدخل في حُكم من أحكام علام الغيوب )).
اتخاذ يوم عاشوراء يوم فرح وسرور وكعيد يحتفل به وليصبح عادة أهل دمشق الذين استقبلوا بالبشائر خبر القضاء على الثائر وأظهروا الفرحة والراحة وذهب لحد الشتماتة والتشفي ومن ثم أصبحت سنة نقلها الحجاج بن يوسف الثقفي إلى العراق أيام عبدالملك بن مروان نكاية بآلاف الشيعة ومن بعدهم تبناها سلاطين الأيوبيين في مصر

 

ومن الإجراءات المباشرة أن الحكومات المتلاحقة عملت على منع إحياء المراسم والشعائر العاشورائية أو زيارة مقام الإمام "ع" وضيقت الخناق على الناس ووضعت العراقيل ففي عهد الرشيد والمتوكل تم وضع المفارز وبث العيون لمراقبة الطرق المؤدية إلى قبر الإمام "ع" مما اضطر المسافرين للسير ليلا والاستراحة نهارا ونشرت الحرس وفرضت عقوبات جائرة قاسية وصلت حد إلقاء الناس في المطبق أيام المتوكل وقتلهم
ولئن إجراءات منع الشعائر لم تفلح في منع الناس ولم تردع العقوبات الظالمة زوار أبي عبدالله "ع" من القدوم إليه، تفتق حقدهم عن سلوك آخر شنيع وهو هدم المقام الشريف وتضييع معالمه وآثاره وبلغ من بغض المتوكل العباسي وكرهه أنه أمر بحرث الأرض وأن يجري الماء عليه وأن يعفي أثر القبر ولكنه لم يتمكن من إزالة أثر الريح الطيب المنبعث من القبر الطيب وبذلك استدل الناس للقبر ثانية وحاول بعضهم مقابلة الحزن بالفاجعة بمظاهر الفرح والزينة والغناء والأناشيد ..

 

وعندما ولى المنتصر العباسي يزيد بن عبد الله بن دينار ولاية مصر تتبع هذا الروافض وأبادهم وعاقبهم وامتحنهم وقمع أكابرهم وحمل جماعة منهم إلى العراق على أقبح وجه وضيق عليهم في طقوسهم وشعائرهم ثم أعقب ذلك ازدهار وانفراج في ظل حكومة الحمدانيين بحلب والفاطميين ولكنه سرعان ما منع واقتلع بقسوة ووحشية في عهد الأيوبيين وكذا كان الأمر في الشام وفي بغداد بعد استيلاء السلاجقة الترك عليها فحظي التيار المناهض للشيعة بغطاء رسمي من السلطة وتشجيعا منه فعادت المآتم الحسينية تقام سرا وفي معرض الحديث عن منع إحياء شعائر عاشوراء تجدر الإشارة إلى فتوى تقي الدين أحمد بن عبدالحليم المعروف بابن تيمية الذي كان عالما بدلالات ومعاني إحياء هذه المراسم وزيارة القبور بشكل عام والمراقد الشريفة بشكل خاص لكنه يجانب الحقيقة ويفتي بحرمة الزيارة ولو كان قبر النبي "ص" متذرعا بروايات قاصرة عن معناها متحدثا عن محاذير فقهية تستتبع من زيارة القبور مخالفا ما ثبت من سنة المصطفى "ص" وزيارته للقبور ومنها قبر أمه وبكائه وابكائه لمن حوله وقوله في زيارة القبور : " السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمبن . وذهب أئمة المذاهب الأربعة إلى جواز زبارة القبور ولم ينكروها.

 

إن مجرد استذكار ما حل بالإمام الحسين "ع" وصحبه في عاشوراء يجعل المرء المنصف غير المتعنت في حالة التعاطف تجتاحه تيارات من الحزن ممزوجة بالغضب والانفعال ويستتبع ذلك إدانة وإنكار للظالم وتبرؤ منه ومن فعله وإسقاط أخلاقي له وبهذا المعنى فكربلاء هي نصر مؤزر في وجدان الأمة حركت مشاعرها ومدتها بروح التضحية والثورة فمن وحيها وبدافع منها كانت حركة التوابين والمختار الثقفي ثورات أبناء الإمام الحسن "ع" وما تلاها من ثورات في العالم الإسلامي
وﻷن جريمة كربلاء شكل منحرف جدا للجريمة بكل أبعادها وترفضها الفطرة السليمة بغض النظر عن المقام الروحي للحسين "ع" تجاوزت حادثة الطف حدود المذهب والدين مؤثرة بعمق في نفس كل ما طرقت أسماعه هذه الحادثة في كل زمان ومكان ولتصبح علامة بارزة في الإرث النضالي الإنساني في وجه الطغيان، يقول غاندي مفجر ثورة الهند السلمية ضد الانكليز " تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوما فانتصر" "
والنبي "ص" هو أول من نعى الإمام الحسين "ع" وفي يوم ولادته.. وجرت دموعه الطاهرة في مواقف عدة حزنا عليه من ذلك قول عائشة : سمعت أن النبي "ص " قال دخل علي البيت ملك لم يدخل علي قبلها فقال أي محمد : إن ابنك هذا حسين مقتول وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها قال: فأخرج تربة حمراء ... والنصوص في هذا متضافرة
وقد وجه أئمة أهل البيت "ع" شيعتهم نحو زيارة النبي "ص" والأئمة السابقين "ع" لخدمة هدف كبير هو إبقاء الصلة دائمة غير منقطعة ونابضة بالحياة بين الإسلام الصحيح والإنسان المسلم وأن لا يتحول الدين إلى مجرد ممارسة لطقوس وحركات صورية وشكل من التباكي ومظاهر الحزن.

ولو توقفنا باستفاضة على أدعية الزيارة وتمعنا في معانيها نجد أن المقصود هو الحفاظ على جذوة الإسلام مشتعلة وإحياء تراث الرسالة بكل أبعادها ومضامينها من منع الظلم والقهر والطغيان وإعلان الولاء لله والرسول "ص" والتبرؤ من أعدائهم، والتأثير في نفوس المسلمين وقيادة فكرهم لغاية واحدة هي جمعهم على منهج واحد
وان كنا لا ننكر الجانب العاطفي ودوره والشعور الوجداني وأثره ولكن ذلك يشكل إطارا للطقوس التهذيبية وليس غايتها وعلى هذا الأساس كان تأكيد الأئمة "ع" ودعوتهم لزيارة الحسين "ع" في مختلف الأوقات ولبس في مناسبات محددة . يقول الإمام زين العابدين "ع": مروا شيعتنا بزيارة الحسين" ع" فإن إتيانه مفترض على كل مؤمن يقر للحسين "ع" بالإمامة من الله عزو جل. يقول الإمام الصادق "ع" : من سره أن يكون على موائد النور يوم القيامة فليكن من زوار الحسين بن علي "عليه السلام"
يقول الإمام الكاظم "عليه السلام" : أدنى ما يثاب به زائر الحسين "ع" بشط الفرات إذا عرف حقه وحرمته وولايته أن يغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر "

الحديث عن أسباب التضييق ومنع الشعائر الحسينية فهو يتعلق بخصوصية ثورة الإمام الحسين "ع" من أنها صاغت النموذج المثالي للفدائي المتماهي في حب الله والمستعد للعطاء من غير حدود وأن يجود بنفسه في سبيل كلمة التوحيد والرسالة، لا يخشى في دينه لومة لائم ولا يخضع لإغراءات الدنيا لا في سلطة أو مال، وهي الشخصية التي لا تقيد نفسها بالخطب الحماسية العاطفية بل تجسد كل تلك المعاني في الميدان العملي ولو في بيئة تحكمها سلطة فاسدة جائرة لتحقق التزامها بالانتصار للدين القويم، وهذه الشخصية هي التي يخشاها الحكام ثم إن الشعائر بتوحيدها الفكر والعمل تمكن الأمة من امتلاك القوة والبأس والقدرة على إحداث التغيير متى أرادت، أي أنها تصبح مصدر تهديد بإسقاط السلطة والانقلاب، وإذا أخذنا بالحسبان أن السلطات التي كانت قائمة وأمثالها القائمة اليوم تفتقر إلى مقومات الشرعية وأحقية البقاء الأمر الذي يجعلها تحذر هذه الشعائر كمحرك للقوة الروحية والعقائدية والعزم والإرادة، إذ لا سبيل لأحد بمقارعة جموع الناس المؤمنة بدينها، المعتصمة بالعقيدة، المتمسكة بمظلوميتها، السائرة في جهادها لرفع الظلم والمقتدية بسيد الشهداء " ع" فهولاء منصورون لا يخذلهم الله. يقول الله تعالى في كتابه العزيز " وكان حقا علينا نصر المؤمنين" .

الشعائر الحسينية ليست مجرد تجمعات لكتل بشرية تؤدي طقوسا ونشاطات كرنفالية غايتها التسلية وطلب المتعة والتسرية عن النفس أو تنتهي بحفل خطابي كما في تأبين القادة والملوك والزعماء وإنما هي مناسبات لتجديد عهد الولاء والبيعة والتمسك بالقرآن كدليل عمل وسبيل رشاد ومن خلال استذكار ملحمة كربلاء كأحد أهم المحطات التاريخية التي جسدها أئمة أهل البيت ولتكون حافزا لاجتراح معجزة النصر رغم قلة الناصر والعدة ولكن بأتم الاستعداد الإيماني. وهو ليس إحياء لميراث النبي "ص" وآله فقط بل لكل الأنبياء "ع" باعتبارهم ذرية بعضها من بعضها .
وبهذا المعنى هي مدرسة تربوية عظيمة تصنع الإنسان وتصوغه في حالة من الطهارة متحررا من بهرجة الدنيا وخداع مفاتنها تمثلا وتأسيا بمن أريقت دماؤهم بكربلاء
إن مجرد بقاء المنهج الحسيني الثوري ولو على سبيل التراث الفكري يعني وجود جملة مقارنة تكشف وتعري حكومات الطغيان والفساد وتنزع عنها الشرعية، ﻷنها مثل أعلى وقدوة، فكيف بهذا المنهج يتجاوز حالة الإرث الفكري ويتحول لبرنامج عمل يطبق على مساحة الأمة.
ومن الغريب أن المخالفين يعتبرون مجرد ذكر كربلاء وما وقع فيها إنما يندرج ضمن إطار ثقافة الشيعة كحالة مذهبية ضيقة وليس ضمن إطار الحالة الإسلامية ككل، وفي ذلك يكمن قصور النظر وضيق أفق الفكر ﻷن شخصية الإمام الحسين "ع" هي شخصية جامعة موحدة تتجاوز المذهب وهي في بعدها الرسالي العالمي إنسانية شاملة تمثل القيم الأخلاقية في تساميها ومثاليتها ..
وهم يقصدون بذلك الإيحاء بأن المراسم الحسينية لا تعنيهم أو تخصهم من قريب أو بعيد .

وفي مجانبة للحقيقة وتنكب عن الحق ربما يذهبون أبعد من ذلك بأن يعتبرون المراسم مجرد طقوس يراد بها التكفير والتوبة عن خذلان الحسين "ع" والغدر به. ثم أنهم ينظرون إليها من قبيل أنها مجرد طقوس وليست شعائر عبادية للاهتداء والاقتداء وهنا يتم التركيز على بعض السلوكيات كاللطم والتطبير وأنها تفضي إلى إيذاء النفس وتحميلها ما لا تطيق ثم يسمونها بالبدعة والضلال محذرين الاتيان بها وهذا ديدنهم أنهم يقولون الحق ليوردوا الناس مواطن الباطل فالحقيقة أنهم يريدون الانتقاص من هذه الشعائر ومنعها ما استطاعوا لذلك سبيلا ..

لم تقتصر المراسم الحسينية على زيارة المقام الشريف وقراءة الدعاء ﻷن ثورة الحسين "ع" أصبحت ملهمة شعراء الشيعة وبذلك ظهر شعر الرثاء ليغني الأدب الشيعي ويضفي عليه سمات الحزن والأسى والحض على الثورة، وهو شعر غني بقيمته التربوية. وكان هذا الشعر مدفوعا بحافزين:
أ- عاطفي وجداني: ينطوي على حجم كبير من التأثر بالمأساة بموازاة الإدانة للجريمة والوحشية فيها
ب- ديني : وهو الاستجابة لدعوة الأئمة في نظم الشعر وتشجيعهم عليه تخليدا للواقعة ومدحا للأئمة "ع" وتعظيما لشعائر الله وبراءة من أعداء الدين.

روي عن الإمام الصادق "ع" قوله: من قال فينا بيتا من الشعر بنى الله له بيتا في الجنة "
أول شعر رثي به الحسين عليه السلام قول عقبة بن عمرو السهمي من بني سهم بن عوف بن غالب

إذا العين فـّرت في الحيـاة وأنتم ***** تخافـون في الدُّنيـا فأظلم نـورها
مررت على قبـر الحسين بكربلا ***** ففاض عليه من دمـوعي غزيرها
فما زلت أرثيـه وأبكي لشـجوه ***** ويسـعـد عيني دمعهــا وزفيرها
وبكيت من بعد الحسين عصـائب ***** أطافت بــه من جانبيها قبــورها
سـلام على أهل القبور بكربـلا ***** وقـل لها منّي سـلام يـــزورها
سـلام بآصال العـشي وبالضُّحى ***** سـلام بآصال العـشي وبالضُّحى
ولا بـرح الوفّـاد زوار قبــره ***** يفـوح عليـهم مسـكها وعبيـرها

 

على أن السلطات انتبهت لما يورثه هذا الشعر من أثر في تحريك مشاعر العامة ويؤجج انفعالها فواجهته بالتضييق والقمع ولاحقت الشعراء ونكلت بهم وأنزلت بهم عقوبات قاسية. فالكميت الأسدي لاقى عقوبة السجن في عهد هشام بن عبد الملك، شعر الكميت الأسدي في رثاء الحسين (ع):

أضحكني الدهر وأبكاني ***** والدهر ذو صرف والوان
لتسعة بالطف قد غودروا ***** صاروا جميعا رهن أكفان
وستـة لا يـتـجـارى بهم ***** بنو عقيل خير فرسان
ثم علي الخـير مـولاهـم ***** ذكرهم هيـج أحـزاني

 

ومنصور النميري صدر أمر بقتله من الرشيد ولكن المنية كانت أسرع إليه، يقول الرشيد بعد سماعه أحد قصائده :لقد هممت أن أنبشه ثم أحرقه. فالسلطات تعاملت مع هذا الشعر من منظور سياسي واعتبرته خطرا يقوي علاقات الشيعة فيما بينهم ويجمعهم ويثير الشبهات حول شرعية الحكومة القائمة. ولذلك كان تداول هذا الشعر يتم سرا وفي تكتم
مقتطفات من قصيدة منصور النميري

ألم يُبْلغكَ والانباءُ تنمى ***** مصُالُ الدهرِ في وُلْدِ البتولِ
بتربة كربلاء لهم ديارٌ ***** نِيامُ الأهلِ، دارسة الطُلولِ
تحيات ومغفرة وروح ***** على تلك المحلة والحلولِ
ألا يا ليتني وُصلت يميني ***** هناك بقائم السيف الصقيل
فَجِدْتُ على السيوف بحرّ وجهي ***** ولم أخذل بنيك مع الخذول

 

يقول الأصفهاني: "كانت الشعراء لا تقدم على ذلك ( يعني شعر رثاء الحسين "ع") مخافة بني أمية وخشية منهم "
يقول أبو الأسود الدؤولي ظالم بن عمرو :

أبني علي آل بيت محمد ***** بالطف تقتلهم جفاة نزار

 

ويقول منصور النميري :

آل النبي ومن يحبهم ***** يتطامنون مخافة القتل
أمنوا النصارى واليهود ***** وهم من أمة التوحيد في أزل

 

شعر السيد الحميري في رثاء الامام الحسين (ع)

أمْرِرْ على جدثِ الحسينِ ***** وقُلْ لأعظمِهِ الزكيّهْ
يا أعظماً لا زلـتِ من ***** وطفاءَ ساكبةٍ رويّهْ
ما لذّ عيش بعد رضك ***** بالجياد الأعوجيّهْ
قبرٌ تضمن طيبـاً ***** آباؤه خيرُ البريّهْ
يا عينُ فابكي ما حييتِ ***** على ذوي الذممِ الوفيّهْ

 

و يمضي الزمن ويطوي صفحات أيامه بحوادثها ووقائعها إلا أن يوم الطف يبقى صفحة مفتوحة تعلم الناس معنى الثورة، والأخطر أنها غلبت منطق الواجب على منطق الممكن، وهذا ما كان في موقعة عين الوردة .

كربلاء قدمت صورة شاملة للحياة بكل معانيها وصحابة الإمام "عليه السلام" مثلوا نموذجا فريدا للعلاقات الإنسانية المثالية اعتبارا من الروابط العائلية وصولا للولاء العقائدي، وعلى أرضها حضر الرجل شيخا وشابا وأخا وابنا وابن أخ وحضرت المرأة أما وأختا وبنتا وزوجة وحتى الأطفال كان لهم حضورهم المميز. بذلك اكتملت لوحة في غاية الروعة والنقاء والصفاء هي التضحية وتسابقوا دونها في بذل المهج ..

يوم الطف ليس كغيره من أيام الدهر يقاس بمدته الزمنية بل يتجاوزه ليجسد حالة التناقض في الحياة ومسؤولية الاختيار ما بين الإيمان والردة والكفر، الحق والباطل، الإصلاح والفتنة، العدل والظلم . وكربلاء تتجاوز جغرافية المكان والأرض والأبعاد
و قصارى قولنا أن قضية الإمام الحسين "ع" تتجاوز حدود البدن ولا تنحصر في جسد مقطع مرمل في الصحراء، فذلك حادث محدود في بعدي زمانه ومكانه وسرعان ما تعفى آثاره في ذاكرة الناس ومآله النسيان، ولكن القضية في بعدها الرسالي باقية، لا تفنى وتستعصي على النسيان ﻷنها قضية القرآن والسنة، هي الحق المضيع والالتزام بالدين وحب الله ورسوله وعن النبي "ص" أنه قال :" حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسينا " والإمام "ع" بهذا المقام هو المعلم والهادي والمرشد والقدوة لكل مظلوم ومقهور ومستضعف على مر الزمن وليكون المثل الذي يتكرر في أتباعه وأنصاره .. لكن لا يوم كيومك يا أبا عبدالله .. طبت وطاب ثراك

السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين .