سؤال وردني من الأردن



ارسل إلي أحدهم سؤالا قال فيه : ( قرأت كتاب نهج البلاغة لأمير المؤمنين عليه السلام، وسمعت على اليوتيوب حلقات كثيرة من حقائق التاريخ التي جمعت حسن المالكي وسهيل زكار وهم من أهل السنة والذي يتحدثون به بحيادية مطلقة ومهنية وتكاد تكون كل النقاط الخلافية بين السنة والشيعة تصب بمصلحة الشيعة حيث أنهم هم الأحق.
أيضا قرأت كتاب (ليالي بيشاور) لسلطان الواعظين وها أنا سأبدأ بقراءة كتابك( وركبت السفينة)  أوصلني عقلي والتفكير المنطقي والهندسي الذي أحبه والواقع السياسي الذي نعيش به متمثلا بخنوع مطلق لأهل السنة للعدو الأمريكي الصهيوني والمقاومة الشيعية لهذا العدو إلى أن مذهب أهل البيت هو المعين النقي للإسلام المحمدي ولكن التحدي الأكبر والسؤال الأصعب، من أنا حتى أصل لشيء لم يصل إليه أحمد الرفاعي ولا عبد القادر الجيلاني ولا محيي الدين ابن عربي ولا ابن أبي الحديد ولا سليم البشري  ولا الشعراوي ولا البوطي ولا رجب ديب رحمهم الله جَميعا وقدس أرواحهم؟
 ( لماذا لم يتشيعوا) علما أني من خلفية صوفية وأعلم وتعلم معي أخي حب الصوفية لأهل البيت ولله ورسوله ومداومتهم على الأذكار بهذا الزمن الصعب والمليء بالفتن وكما تعلم المداومة على الذكر من أفضل العبادات لله تعالى
صدقني هذا السؤال يكاد يأكل عقلي. علما أنني لن أختلف معك على أي نقطة عقائدية أو فقهية عند الشيعة لأنني أطلعت جيدا على أدلتهم القوية المأخوذة من كتب أهل السنة.
لو كنت من خلفية سلفية وبعد إطلاعي على كل النقاط الخلافية وصدق الشيعة فيها لكنت تشيعت فورا ولكني انتمي لمدرسة حقا محبة لله ورسوله وأهل بيته وفيها أولياء وصالحين ومنهم من يقول والله لو غاب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحظة لما عددت نفسي من الأحياء ومنهم من يجتمع إلى يومنا هذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة ومناما
أعلم أنك يمكن أن تجيبني بكلمة واحدة وتقول لي هذا شأنك ولكن أريد أن تطلعني على أي تفصيل من تفاصيل رحلتك الى التشيع علها تكون دافع أو مثبط. أعتذر عن الإطالة وأشكرك سلفا )


الجواب النقضي
لعل أغلب من يمر بتجربة في التحول العقائدي ينقدح له هذا التساؤل، وهذا السؤال طُرح قبل سنين عديدة وطُرح مجددا من هذا الأخ ، ولا شك أن السؤال يجول في أذهان الكثيرين من أبناء أمتنا المنصفين، فأشكره على طرحه، ولحسن الحظ أنني أحتفظ بجواب على مثل هذا السؤال لأحد الأعلام ، ساذكره بتصرف واختصار مع اضافات مني، مع العلم إن الحق، لا يُعرف بالرجال فاعرف الحق تعرف أهله .
أخي الكريم أن ما سألت عنه ، لو فكرت فيه ملياً ، لوجدته يمثل فكرة تحمل ضدها ، وهذا يقع حين الغفلة وتعجّل التفكير، وسأبين لك كيف ذلك، لو عكست السؤال كما يلي :
لقد عرفنا بأن كثيراً من كبار المفكرين الإسلاميين هم من الشيعة ، فيهم أعاظم العقلاء والمنصفين وقد قرأوا الفكر السني واستوعبوا أدلته ، فلماذا لم يقتنعوا به أبداً ؟ لماذا لم يقتنع أئمة أهل البيت عليهم السلام الذي لا يشك مسلم بأنهم من أعاظم علماء المسلمين ومن عقلائهم ؟؟
لماذا لم يقتنع صحابة وتابعين بالأطروحة السنية : عمار بن ياسر ، أبو ذر ، المقداد ، مالك الأشر ، الحارث الأعور الهمداني ، وكميل بن زياد ، حجر بن عدي ، الخ ...
لماذا لم يقتنع أبان بن تغلب أو الشيخ المفيد مع سعة اطلاعهما ، ومئات العلماء المشهود لهم بالعلم والتقوى ؟
لماذا لم يتسنن الشعراء ورواد العربية الأصيلة مع اتصالهم بالثقافة السنية بل اتصالهم وصداقتهم للبيوت الحاكمة السنية أمثال : أبو الأسود الدؤلي ، الخليل الفراهيدي، يحيى بن يعمر، السيد الحميري ، مجنون ليلى ، كثير عزة ، جميل بثينة ، دعبل الخزاعي ، الفرزدق ، البحتري ، أبو تمام ، المتنبي ، الشريف الرضي ، السيد المرتضى ، أبو فراس الحمداني ، المعري ، ابن الرومي ، الصفي ، ابن المغربي ، ومئات بل ألوف الشعراء العلماء الحكماء؟
لماذا لم يتجه إلى التسنن والتصوف أهم دارسي الفلسفة والعقليات وفلاسفة الإسلام وعلماء الكلام أمثال : الكندي ، النوبختي، ابن سينا ، الفارابي ، البيروني، ، الطوسي ، الحلي ، صدر الدين الشيرازي ، الداماد ، الفيلسوف محمد باقر الصدر وآلاف الفلاسفة والحكماء والمتكلمين
لماذا لم يتسنن آلاف الفقهاء الذين لا يشق لهم غبار ؟ ولماذا ؟.. و لماذا ؟
فهذا هو ما يحتويه سؤالك ، إذا كنت تسير به على نفس المنوال ؟
أما لو كان سؤالك عن فكرة بعينها كالإمامة أو العصمة فسيكون السؤال بالجهة الأخرى أوسع من رفض فكرة بعينها حتى في أضيق الاتجاهات ، فلماذا لم يسلم المسلمون مطلقاً بما قاله الأشاعرة من نفي العلاقة السببية والتي بها موت العقل والإسلام؟


الجواب الحلي
هكذا ترى أن مثل هذا السؤال يحتوي على ضده ، ولو أردت أن أجيبك حقيقة عن السؤال التالي : لماذا لا يقتنع بعض من رأى الحجة الشيعية ؟ وهو لا يُتهم بعقله وعلمه ؟
فأقول : هذا السؤال شخصي جداً فإن مدعي مثل هذا يجب أن يثبت أمرين ضروريين ، وهما أولاً : كونه اطلع على كامل الحجة ، ثانياً : كونه قابلاً لفهم الحجة، وهذان أمران لا يتيسر ادعاءهما وتصديقهما لمجرد الادعاء ، بل ينبغي التحقيق ؛ فلهذا فان من المجازفة بمكان إطلاق مثل هذا الإدعاء من أساسه ، لأنه من المصادرات المنطقية حيث أن النتيجة عين الدعوى والبرهان عين المدعى.
قد يصح في أكثر الأحيان بأن عدم القناعة بالفكر الأخر هي نتيجة حتمية لعدم جدية البحث عن الأفكار الأخرى، لظروف شخصية واجتماعية وسياسية ومصلحية ، وهذا ينطبق على كل الأفكار بدون تحديد بدين أو مذهب
وكلنا يعلم أن أوربا قتلت وعذبت أصحاب أفكار ونبذت أفكارهم، ثم بعد ذلك تبنوها و قالوا تطورنا ووجدنا أن هذه الأفكار هي الصحيحة حين تغيرت النظم والمفاهيم في العقلية الأوربية ، وهذا لا يعني بان المعاصرين( لجاليلو) والحاكمين عليه هم جهلة أو ليس لديهم إنصاف، لأن مخالفي الشيعة لم يبحثوا بجد وفهم عميقين لما قاله الشيعة ، نتيجة الضغط العام وعدم المصلحة في الوقوف عكس التيار ، وقد وجدنا العزوف الكلي عن بحث الدليل الشيعي من قبل الكثير ممن تصدى للزعامة العلمية أو للتفرغ العلمي والديني ، لنفس الأسباب يضاف إليها الحواجز النفسية .
فأنا شخصياً حاورت بعض الأجلاء فوجدته حين يكون الدليل ملزماً يتغاضى عنه ، ولاحظت تكرر ذلك ، فقلت له لا يمكن أن يكون هذا السلوك من عالم !! فقال بصراحة أنا في داخل نفسي حين اسمع دليلاً مقنعاً لكم ، أتذكر ما تعلمته من أنكم أصحاب فنون في الكلام وألاعيب، فلا يتعدى عندي أن هذه محاولة فنية للتلاعب بعقلي ، ولذلك من دون شعور أغير الموضوع وأهرب من الإلزام.
إذن هناك الحاجز النفسي يسيطر حتى على الأجلاء من أهل الفضيلة والعلم والدين. 
هذا الحاجز لم يكن وليد صدفة أو حالة نزاع بسيط ، و إنما هو نتيجة منهج طويل متشابك بكل تعقيداته عبر التأريخ الإسلامي من أول يوم أسس فيه التأريخ الإسلامي ، ولم يكن التحذير من الشيعة عملاً فردياً بل هو عمل مؤسسات السلطة بكل جحافلها عبر مئات السنين .
ولا يخفى مقدار الترابط بين السلطة وبين غير المقتنعين بالفكر الشيعي خصوصاً وأنت أتيت بأسماء، هم من قلب السلطة إما وزير أو شيخ إسلام !! وأنت لست ممن لا يعي هذا ؟
وإلا لوجهنا لك السؤال الخطير المبتني على نفس البنية الفكرية التي بنيت عليها من الاستدلال، لماذا لا نسأل : لماذا لم يؤمن معاوية بأفكار علي ابن أبي طالب ؟؟
أنا اعرف بأن لديك الجواب وهو لدينا أيضا ولكن السؤال مبني على منهج الأطروحة التي طرحتها، ومع ذلك لو رجعت إلى أمثلتك من العلماء الذين ذكرتم لوجدت خللاً في البيانات وسأبحث في رجلين منهم .. هما ابن أبي الحديد والشيخ سليم البشري رحمهما الله .


ابن أبي الحديد
ابن أبي الحديد المعتزلي ( الوزير السياسي ) ليس شيعياً عندنا قطعاً  ، ويقع العديد في مغالطة حين يحتجون على الإمامية بشرح النهج بعده من كتب الشيعة، والتهم جاهزة له بأنه شيعي وانه لا يؤخذ بنقله  مع إننا نعرف بأنه بريء من التشيع.
لقد صرح ابن ابي الحديد نفسه أنه معتزلي، كقوله: ( وأما التتمة المروية عن جعفر بن محمد عليهما السلام فواضحة الألفاظ، و قوله في آخرها: وبنا يختم لا بكم، إشارة إلى المهدي الذي يظهر في آخر الزمان. وأكثر المحدثين على أنه من ولد فاطمة عليه السلام. وأصحابنا المعتزلة لا ينكرونه، وقد صرحوا بذكره في كتبهم، واعترف به شيوخهم، إلا أنه عندنا لم يخلق بعد، وسيخلق )
وعده أكثر من واحد من الإمامية من المعتزلة، قال الشهيد نور الله التستري في( الصوارم المهرقة) : ( وكذلك فريق من المعتزلة منهم عبد الحميد بن أبي الحديد المدائني قالوا بجواز تقديم المفضول على الفاضل لمصلحة ما )
غاية ما هنالك هو معتزلي وهو مفكر حر وله لقطات فكرية جميلة قد لا تتناسب مع الفكر السني خصوصاً غير المعتزلي بل في كثير من الأحيان جهز مادة النقد للفكر السني وهذا واضح في كتابه شرح نهج البلاغة ولا ننسى تجاهره بحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وسادة آل البيت نثراً وشعراً ، كما تفعل أنت الآن من إظهار الحب والتقدير لآل الرسول ص
ولكن هل درس ابن أبي الحديد الحجة الشيعية ؟ وهل استوعبها ؟
للأسف الجواب سلبي للغاية، فإن دراسات أجريت لشرح النهج ولفكر ابن أبي الحديد بالذات في هذا الكتاب ، وجد بأنه انتقائي ، يعرض من الحجج ما يراه من زاوية معينة ، ويترك ما يراه ملزماً ، بل وجدناه ينفي أمراً في باب المقارعة الفكرية ويثبته في باب السرد التاريخي مثلاً.
وهذه انتقائية لا تخلو من شائبة ، ومجمل ما وجدنا عنده من نقاش ودفعٍ مبني على عدم فهم المطالب ، وكان في بعضها يناقش ما لا يقوله الشيعي بما يقوله الشيعي وهذا منتهى الخلط بين المعلومات، فعقل ابن أبي الحديد بتقديرنا دائرة معارف تكديسية خالية من المنهج القيادي المنطقي، وهذه في الحقيقة مشكلة في المنهج الاعتزالي ونحن أعرف به لأننا نتفق مع الاعتزال في مناهج التفكير ونعرف الفروق بيننا بدقة وأهم هذه الفروق هو آليات التحليل اللغوي والمفاهيمي ، ومسألة الحدود المعرفية عند الإنسان والحجة فيها ( دليل العقل ) ، ونظرية المعرفة ، ومناهج مصادر البيانات، 
فهذا الرجل لم يكن قادراً على استيعاب الدليل الشيعي ولم يكن له القدرة النفسية على تتبع الدليل الشيعي بأصوله الدقيقة ، وليس المقام هنا مقام التفصيل ، ولكن كما تعلم ويعلم كل فاضل بأنه بدأ كتابه بخطبة ضمنها حمد الله على مخالفته منطق العدل والعقل بتفضيله المفضول على الفاضل !!
وهذه قضية يراها الأعمى والمبصر على السواء وهي مخالفة صريحة لمضمون القرآن الكريم ولدليل العقل ومنهج العدل ، وهي تحتوي على نظرة تبريرية تحاول أن تسقط الواقع الخارجي على الحجة العقلية بدل إسقاط الحجة على ذلك الواقع.
ولو وجدت المكان أهلاً لبحث طريقة تفكير ابن أبى الحديد بطريقة تحليلية علمية جافة لتبين مدى البون الشاسع بين ما هو موجود في مخيلة صغار المثقفين من متانة هذا الرجل وبين واقع الهشاشة الفكرية ، وحين تتوفر شروط البحث فلن أبخل بمثله.
وهذا منهج لا يختلف عن منهج مكيافللي وابن قتيبة الدينوري غيرهم من مفكرين سياسيين يرون أن واقع الحاكم هو الحقيقة المطلقة وأنها اختيارات إلهية تكوينية !! وسلوكه يمثل المصلحة الحقيقية في بقاء الحضارة ، بغض النظر عن حجم الأخطاء كما يسمونها ، ونحن بصفتنا الشيعية نعتني فقط بجانب المخالفة منها للشريعة ؛ لأننا من دعاة الشرعية الدستورية للحاكم ، وهذا هو مفهوم الإمامة كما نفهمه وليس كما يفهمه الآخرون .


البشري والمراجعات
أما الشيخ سليم البشري رحمه الله ، وهو شيخ الأزهر لمرتين كما هو معلوم . وهذا الرجل بالذات لا يمكن الجزم حول عدم قناعته بالفكر الشيعي فلا هو صرح بذلك وليس له ما يدل عليه، بل هناك ما يدل على خلاف هذا الكلام من خلال الحوار الذي دار بينه وبين المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين الذي ورد في كتاب المراجعات، وهو الكتاب الذي حاول رجال مخابرات إحدى الدول بالاتفاق مع الحركة السلفية نفي أن يكون الشيخ سليم البشري قد حاور هذا الحوار ، وذلك اعتماداً على ثلاث حجج.
الأولى : هي عدم معقولية تسليم الشيخ البشري بسلامة الحجج الشيعية وميله إلى الاعتقاد بان المذهب الشيعي يصح التعبد به.
الثانية : هو تصريح السيد في المقدمة بأنه لا يجزم بأن هذا هو عين ما جرى بينهما.
الثالثة : دعوى نفي ابن البشري بهذه المراجعات .
وبحكم كوني مطلعاً على حقيقة الأمر فان الحوار جرى حقيقة في بداية القرن العشرين الميلادي وكان الشيخ البشري طاعناً في السن بينما السيد شرف الدين كان شاباً في ريعان شبابه ، وقد تعرضت الأوراق الأصلية إلى الحرق من قبل الفرنسيين في العشرينات من ذلك القرن كما أشار السيد شرف الدين وكاتب المقدمة عن حياته السيد محمد صادق الصدر وهو صهره وابن عمه، ولكن السيد كان يحتفظ بدفتر دوّن فيه المراجعات عند أحد أقربائه.


وليس هناك أدنى شك في حصول هذا اللقاء الفكري في القاهرة حين زيارة السيد شرف الدين للقاهرة وهذا غير نفيه إليها - من قبل الفرنسيين- لاحقاً ، وقد قيل بأن هجرته إلى القاهرة كانت بسبب جمال باشا السفاح ، حيث كان شخصية مهمة هو وابن عمه السيد محمد الصدر في قضية الثورة العربية الكبرى وملابساتها من مطالبة بالشرعية والدستورية من العثمانيين ثم الانقضاض على الفرنسيين والإنجليز حين حكموا البلاد.
وقد ساهم شرف الدين والصدر في المطالبة بخليفة مسلم عربي وكان السيد محمد الصدر رئيس مجلس النواب ورئيس الوزراء في العراق ، هو من توج الملك فيصل باعتباره حلا لزوال الاستعمار المباشر والدخول بمرحلة الاستقلال بعد هزيمة الجيوش الإسلامية التي حاربوا فيها بشرف ، وكان السيد شرف الدين هو من طالب مع ثلة من علماء جبل عاملة الملك فيصل بإعلان الخلافة الإسلامية برسالتهم الشهيرة له في طريقه إلى الشام، والحديث يطول وهو يعني بأن السيد شرف الدين في بداية ذلك القرن كان من الشخصيات البارزة ويستغرب منه أن لا يكون بذلك المستوى العلمي والاجتماعي والعلاقات الراقية.
وقد اطلع الكثير من أهل الفضل على نفس الرسائل من قبل الشيخ البشري وأجوبة السيد شرف الدين كما حدثني من اطلع على ذلك الدفتر الذي طبع باسم المراجعات والذي يحوي على أصول كل الحوار والمناظرة بينهما ، وهنا نأتي إلى الدعاوى الثلاث ، التي نقضوا بها المراجعات.
الأولى : هو عدم معقولية بخوع البشري للدليل الشيعي،  وهذا الكلام أشبه بكلام الدجالين لأنه يفترض أن البشري معاند سلفي لا يؤمن بالتسنن نفسه حيث أن الحوار كله كان على أساس الدليل السني وليس الشيعي ، كما هو ظاهر لمن يقرأ المراجعات ، فكأن شيخ الأزهر عندهم (حاشاه) غبي لا يفهم الدليل ولا يعقل الأمور ويكذّب موروثه الثقافي بسهولة ، كما يفعل هؤلاء الأدعياء للدين وهم منه براء ، وهذا الأمر لا يحتاج إلى مزيد حديث فان عالماَ كالشيخ البشري أقدر على البخع للحق وللدليل خصوصاً والدليل من جنس ما يعتمد هو في فنه وعلمه.
والثانية : تصريح شرف الدين بأنه لا يدّعي بأن هذا هو عين ما جرى ، وقد طنطنوا على هذا كثيراً ، والحقيقة بأن شرف الدين رجل مؤمن صادق متقي يخاف من تغيير حرف أو كلمة جرت أن تكون خادشة بالصدق في الادعاء بأن هذا عين ما جرى ، و قد أجرى بعض التصحيحات على رسائله هو ، للشيخ البشري ، من قبيل التصحيح الإملائي ، وإضافة رقم مصدر مساند للمصدر السابق ، وهو قليل جداً حسب ما نقل لي المطلعون على الدفتر الأصلي ؛ ومنهم ولده العلامة الجليل السيد عبد الله شرف الدين ، وكان تغييره لصورة الكلمة من صورة الإملاء القرآني إلى ما يسمى بالصورة الإملائية الحديثة بحسب حاجة المطبعة.
وقد أضاف بعض أرقام المصادر إما لتغيرها بمطبوعات تأخرت عن زمن الحوار أو لعثوره على ما يناسب في مكان أخر وهذا لا يتجاوز بضع مواقع ، وللأمانة وللتقوى صرح بعدم العينية ، لأنه يرى العينية في الصورة نفسها التي تمت بها المحاورة ، وهذا غاية النزاهة فمن يأتي الآن بتأليف أو حوار ويلتزم بحرفية النصوص بشكل عيني ، وهذا ما قصده شرف الدين تماما ، وإلا فإن من اطلع بعين البصيرة يجد أن إشكالات الشيخ البشري على الفكر الشيعي هي من أمتن الإشكالات السنية بأسلوب مؤدب يليق بعالم جليل كهذا العالم المتقي الأديب الرائع ، ومن تتبع نصوص ما كتب الشيخ البشري يرى وحدة النفس والأسلوب ظاهرة، وليس بمقدور فرد أن يكتب بنفسيين راقيين أبداً ، وهو واقع المرجعات حيث اختلاف النَفَس والصياغة الأدبية ظاهرة وكانت روعة أسلوب البشري الطاغية على تكلفات شرف الدين الأدبية في بعض الموارد، وهذا ظاهر لمن له أدنى اطلاع على أساليب البلاغة والنقد الأدبي ، وقد أجاب عنها سيدنا شرف الدين لخواصه أن السبب هو اختلاف العمر بينهما، وهذا ما يفسر توجه السيد إلى أسلوب مريح فيه حداثة أسلوبية وانبساط في كهولته وشيخوخته.
الادعاء الثالث : هو نفي ابن الشيخ البشري لعلمه بمثل هذه المناظرة، وهذا الادعاء بالإضافة إلى انه كذب محض وافتراء رخيص على ابن البشري فهو لا يمكن أن يكون دليلاً أبداً , لأن عدم علمه ليس علماً بالعدم ولأنه ليس صاحب الموضوع نفسه فشهادته تبرعية في غير محلها فكم يخفى على الابن ما يفعل الأب !! وليس ذلك بعجيب، ولكن هل فعلاً قال ولده ذلك ؟
في سنة 1978 ميلادية التقى أحد أقاربي بابن الشيخ سليم البشري وهو أستاذ جامعي محترم جداً من دون أن يعرفه ؛ فسأله ابن البشري عن السيد محمد باقر الصدر فمدحه قريبي بقوله هو فاضل – وهو اصطلاح على المتانة العلمية عند علماء الشيعة – فاعترض عليه ابن الشيخ سليم وقال : لا يجوز أن تصفه بالفاضل بل قل العبقري الحجة في العلوم الإسلامية ، وعرف نفسه بأنه ابن الشيخ سليم وجرت بينهم انبساطات وتعرف على قرابة من يحدثه ، بالسيد الصدر والسيد شرف الدين.
فسأل عنهم حثيثاً وتذكر المراجعات بين والده وبين السيد شرف وأهميتها في إزالة حاجز الخوف من الآخر وإرجاع الاعتبار لشخصية المسلم المتصفة بالاخوة ، واعترف بأنه يتعبد بنصوص المذهب الجعفري، وقد حاولت أنا شخصيا في بداية الثمانينات أن اتصل به فلم احصل على جواب وقيل لي - بعد ذلك - بان هناك احتمال لوفاته لأنه طاعن في السن وكان مريضاً وانقطعت أخباره .
وهكذا فاجئنا رجال المخابرات بتصريحه العجيب الغريب بعد أن انقطعت أخباره،
وهكذا عادة أهل الباطل شهادة الميت وأخذ التصريحات منه بعد موته بشكل شفوي ، يشهدون عليه آلاف الجنود والأعوان بأنه حدثه من قبره بكل ما يريد السامع.
أخي العزيز فهذا ما استشهدت به، فهو إذن قد أذعن للدليل الشيعي ولا يوجد دليل على عدم إذعانه،وهذا يدل على أن السؤال تولد عندك نتيجة فكرة سريعة لم تقم على موازنة صحيحة.
ولكن أشهد بأنك حاولت التفكير مخلصاً وقد عبرت عن شك وسؤال دار في ذهنك بدون لف أو دوران بعيداً عن نية الخبث كما يفعل أعداؤكم السلفية معكم ومعنا من أساليب.


الشيخ البوطي
جاورت العقيلة زينب ع في مدشق سنة 1999 ـ 2003 ، وهناك سمعت من أحد الثقات وهو قاض من الرقة متخصص في الشريعة الإسلامية بدرجة ماجستير ـ هداه الله إلى منهج أهل البيت ع ـ حدثني أنه ذهب مع السيد علي البدري إلى المسجد الذي يُدرس فيه الشيخ البوطي ، والسيد علي البدري كان معروفا بسفره وتجواله لنشر فكر أهل البيت ع ومحاورة الآخرين، وكان يمتاز بحفظه لمصادر الأدلة بالجزء والصفحة ،
وحين قابل الشيخ البوطي ذكر له أنه أخطأ في أحد كتبه باحالة حديث ( كتاب الله وسنتي ) إلى ( صحيح البخاري ) وأن الحديث الصحيح هو ( كتاب الله وعترتي أهل بيتي ....) وهو في مصادر أخرى غير البخاري .
كان هذا الحوار بينهما أثناء وجود طلاب علم وبحضور جمهور الشيخ البوطي، غضب الشيخ لاحقا من هذا القاضي وعاتبه بشدة على احضار السيد البدري إلى درسه وطلب أن لا يفعل هذا مجددا!  وأترك ما بين السطور لنبهاتك أخي الطيب .


اشكال كرامات الصوفية
بعد البيان المتقدم بعث لنا السائل المهندس اشكاله التالي : إن ما يحصل من كرامات ومعجزات خاصةً عند ساداتنا اهل التصوف هي رسائل واضحة لأصحاب هذه الكرامات " بأنك على خير" أو بأنك تسير بالإتجاه الصحيح. الشيخ أحمد الرفاعي قدس الله روحه عندما امتدت له يد الحبيب الشريفة من المقام وقبلها بعدما ردد قوله وهو مقابل واجهة المقام الشريف  في حالة البعد روحي كنت أرسلها تقبّل الأرض عني فهي نائبتي وهاهي دولة الأشباح قد حضرت فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي )
 وهذا قد حصل أمام آلاف الحجاج وانتشر الخبر على الرغم من المحاولات السلفية لإخفاء أو تجاهل هذه القصة.
 الإستنتاج الوحيد الذي يمكن أن نخرج به أن هذا الشخص قريب من الله ورسوله وبأنه صاحب منهج نقي، أيضاً يمكننا أن نستنتج بأن رحمة الله واسعة وليست حكراً لمذهب أو حتى دين معين .
المقصد هنا، إن أردنا أن نشبه الحق بمركز دائرة وأننا كلما ابتعدنا عن المركز اقتربنا من الباطل وبأن رحلة الإنسان أو الهدف الأسمى هو الإقتراب أو السلوك باتجاه مركز الدائرة، أنا الآن بموقع معين وانت بموقع معين من هذا المركز والكل يدّعي بأنه الأقرب، عقلي يخبرني بأن مروان خليفات بالمنطق وبحسب عقلي هو أقرب ولكنني عاصرت وشاهدت بعيني وقلبي (والله على ما أقول شهيد) كرامات لبعض أهل الله من الصوفية المعاصرين مثل الشيخ رجب ديب رحمه الله شيخ الطريقة النقشبندية ببلاد الشام، شاهدت الشيء الذي يجعلني أغمض عيني وأسير خلفه. 
 كيف لي أن أحكم؟ أو السؤال، كيف أستطيع أن أتعبّد الله بأفضل طريقة تجعل ربي راضي عني؟  أخوتنا الشيعة أصحاب دعوة سامية راقية لا تشوبها شائبة وهي حب واتباع آل البيت سفينة النجاة ، على الرغم من الصورة الغير الصحية التي يحاول السلفية ان يظهرها لهم وهم أنفسهم يساهمون بترسيخها من خلال ممارسة اللطم والتطبير، والأهم من ذلك ذكر آل سيدنا محمد أكثر من ذكر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم وهذا ماتفوق به عليهم السادة الصوفية حيث أشعر أنا شخصيا وأنا منهم أن حبي وعشقي لحبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلّم جعلني أعشق وأغرم بالسيدة الزهراء البتول أول الأمر والبحث عن معلومات عنها والأحاديث الشريفة التي تخصها ثم انتقلت لمقام آخر بعد هذا الحب والإكثار من الصلاة على الحبيب، انتقلت لمقام حب الإمام علي عليه السلام ومعرفة قدر بسيط من مقامه العالي، وهكذا دواليك ويبقى رأس النبع هو الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم.
أعتقد شخصياً والله أعلم أن الناس مقامات وأن الأمور نسبية وأن رجلاً يسعى لإرضاء الله أيّاً كان مذهبه وبيئته ويعمل ويسعى لا بد له وأن يجد نتيجة، حتى لو كان محسوبا على دين غير الإسلام وأن من يركن لمذهبه أو بيئته ويفترض بأنه من الفئة الناجية فقط لأنه ولد بالمكان الفلاني، فهو يتجرأ على الله وينسب له الظلم تعالى الله علوا كبيرا، فكيف يمكن حل الاشكال الذي أوردناه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


جواب الإشكال
انحصر سؤال الأخ  بمبحث الكرامات والخوارق، وهذا تقدم جيد بالموضوع، وخلاصة الاشكال : أنه هناك كرامات تجري على يدي البعض من أهل التصوف وهذا يدل على أنهم على خير، ولو لم يكونوا على الهدى لما أجرى الله على أيديهم تلك الكرامات  !
لقد ولدت هذه الفكرة عنده توقف في فهم الحق ومساره. 


 أولا :

إن معرفة معيار النجاة يكون من خلال النصوص الشرعية الصحيحة، وليس عن طريق غرائب أو كرامات تجري على يد شخص معين ولا يخفى عليك متانة الأدلة التي يسوقها الإمامية أمثال : حديث الثقلين والسفينة والغدير بالأضافة للآيات القرآنية بشأن أهل البيت ع. 
 وعلى العموم فان مجمل وصايا الرسول تدل على انحصار النجاة عن طريق محبة الرسول وأهل بيته واتباعهم .


ثانيا:

إن الاسلام قائم على التكليف وليس على معايير بشرية وعلاقات انسانية وان هذا جيد وذلك غير جيد ، والتكليف هو من الله ، فينبغي على المكلف بذل الوسع للامتثال لأمر الله ، وليس هناك معيار من تقديم الشخصيات بدون نص من الله ، وقد ثبت انه لا تصح أي من النصوص في غير آل محمد المعصومين فقط ، والبقية كلهم خارج النصوص والا لوقع الاسلام والرسول في التناقض أو التضاد العملي المبطل للحجة لان الهدى لا يطلب من غير من له علم من الله ، ومن كان هكذا فلم ينص عليه الله ، ماعدا الائمة من ال البيت المعصومين فهم منصوص عليهم، فالحجة منحصرة بهم ، ولا يعني وجود أخيار وأهل كرامة في الامة ان يترك الحجة التي يحتج بها الله بالنص عليه.


ثالثا :

اذا كان معيارك صحيحا فينبغي القول إن فقراء الهنود الذين يعملون العجائب والغرائب وما يسمونها المعاجز وكذلك رهبانيي النصارى وسحرة اليهود وروحانيي التبت البوذيين أهل حق وأهل درجة عند الله، بل إن كرامات المسلمين مهما بلغوا لا تبلغ ربع ما يحدث للهندوس وغيرهم من أهل الرياضة من عجائب وتأثير . فإما أن يكون معيارك صحيحا ، فيكون هؤلاء أهل حق ، وملة صادقة بعلاقتها بالله ، او أن معيارك باطل فيبقى الهدى قائم على الحجة والبلاغ وأوامر الله ورسوله، وليس أمامنا طريق ثالث لأنه إما أن يكون معيار حق نتبعه أو هو ليس كذلك، وهذا يرجع لتأمل المكلف ومعرفة ما يريده الله منه ، مع ملاحظة أن علماء السنة قاطبة من صوفية وأشاعرة وسلفيه قالوا بأن الشيطان له قدرة تكوينية أن يغيّر بها طبائع الاشياء ، بل قال بعضهم ان السحرة يملكون قدرة تكوينية على قلب الاجناس وتغيير سنخ الى اخر، فهل الشيطان والساحر من أهل الحق والاخلاص عند الله ويجب اتباعه؟ 
 ستقول اذن : هل نطعن بكرامات بعض أهل العبادة من أخيار المسلمين ممن لم ينتم لمذهب أهل البيت ؟ 
 فأقول لك : لا نطعن ، ولهذه الكرامات تفاسير متعددة كل بحسبه ، وهي لا تثبت حجة ولا تنفيها ، لانها بمعزل عن التكليف . 
 واما تفسير هذه الكرامات فإنه بعد ان ثبت بأن الحق مع علي فلا يهم أن تكون هناك كرامة او غير كرامة لاننا اتباع التكليف الالهي . ولكن هل يمكن تفسير هذه القدرات العجيبة مثل الاخبار بالمغيبات وفعل بعض التكوينيات وشفاء المرضى بل احياء الموتى؟  نعم فهي بعدة اتجاهات : 
 الاول: إن أي عبد يقوم بخدمة الله وعبادته فإن الله لا يضيع عمل عامل منكم من ذكر أو انثى، فيجازي الله ذلك العبد المتعبد بتكريمه بما يظهر له قبوله بين الناس ، ولا نعلم ما هو حكمه في الآخرة، فعلمه عند الله الرحمن الرحيم. 
 الثاني : عمل الرياضات الروحية وتقوية طاقة الروح ،وهذا ما يفعله المسلم والكافر وينالون جميعا التأثير في الكونيات بلا ادنى شك. 
 الثالث: السحر وتسخير الشياطين والجن ، او خدمة الشيطان وعبادته، فينال من الشيطان بعض ما هو منظر به. 
 الرابع : الحيل والذكاء والدجل وهو كثير في هذا العالم بحيث يستطيع المحتال اللعوب تشتيت الانتباه واضعاف التركيز فيقلب الصور بخفة وما شابه ذلك .
 فهذه جملة أسباب وصور وبعضها حق ممدوح وبعضها باطل صريح كما لا يخفى، ولكنها كلها لا تعفينا من العمل وفق الدليل بما كلفنا الله به . 
 والسؤال الذي يُطرح : هل نحن مخيرون بترك ما يريده الله منا؟ لا أعتقد هناك مؤمن يقبل القول بالاستغناء عن طاعة الله ورسول، وما جرى هو ترك الديانة الحقة واتباع الاهواء وأقوال الحكام وأصحاب المصالح الكبرى وسماع نغمة وجوب احسان الظن بالمخالف الصريح لأوامر الله، فهنا مدخل الضلال الطريق الأقصر الى نار جهنم .
فاقرب طريق الى الله هو طريق أهل البيت الذين لم يبدلوا ولم يجهلوا شريعة سيد المرسلين، وبهم التوصية بالاتباع وهو ثقل القرآن بنص رسول الله ، وأنهم الدعاة الى الجنة بل طريق الجنة اليقيني، بينما غيرهم الدعاة الى النار بنص رسول الله . فمن يترك طريق الجنة ويتبع الدعاة الى النار، فلا يلومن الا نفسه حين يدخل نار جهنم بارادته، فإن الله رزقه عقلا وارادة، وبين له الهدى من الضلال فيترك كل ذلك لشبهة تتعلق بصلاح او كرامات بعض الاشخاص التي لا تؤثر على وجوب اتباع العترة ... فهذا امر نعيذكم الله منه فإنه غاية التعاسة الأبدية ، ولا حول ولا قوة الا بالله .