العلامة البلاغي وأصول الحوار 

محمد جواد بن حسن بن طالب البلاغي 1282 هـ ـ 1352 هـ


رجل دين وفقيه ومفسّر شيعي عراقي، كما كان شاعراً وأديباً باللغة العربية إضافةً إلى كونه باحث في الأديان ومتمكن من بعض اللغات الحية كالفارسية والإنجليزية والعبرية، كما كانت له مشاركة سياسية بارزة في ثورة العشرين.
 
يقول سبحانه وتعالى في محكم كتابه (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[1].
ويقول سبحانه (وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)[2].
الآن وقد تراكمت الأزمات الناشئة عن غياب الفهم المتبادل في مسار العلاقة بين العالمين الإسلامي والمسيحي تبدو الحاجة ملحة لاستعادة تراث الحوار والجدل الفكري والعقائدي بين الفريقين والبناء عليه.
ولأن العالم الإسلامي مشغول بصراعاته الداخلية ومن ثم غاب عن عالم الفعل مكتفيا باللجوء إلى رد الفعل الانفعالي كلما واجهته أزمة أو تعرض لهجوم كما بدا واضحا في سلسلة الأزمات التي تفجرت خلال الأعوام القليلة الماضية فإننا في أمس الحاجة لإحياء ثقافة الحوار والجدال مع الآخر بالتي هي أحسن والتي هي أحكم والتي هي أكثر عقلانية وقدرة على الوصول إلى العقول فربما يساعدنا هذا على تجاوز السدود القائمة بين الإسلام والمسيحية وصولا إلى كلمة سواء بيننا وبينهم.
ربما!!.
 
في مقاله المنشور في موقع العلامة محمد جواد البلاغي يقول الدكتور علي الشيخ (کنت مسيحياً کاثوليکياً و لکنّ الله منّ عليّ بنعمة الإسلام، ما شدّ انتباهي مؤلفات العلامة البلاغي التي عمّقت فهمي للدين الإسلامي رغم أنّها لم تکن الشرارة التي أضاءت نور الإسلام في قلبي، فالنقد العلمي الذي تعجّ به تلک المؤلفات ترک تأثيراً عميقاً في نفسي، لقد أمضيت دورة أمدها 3 سنوات في البحرين في تاريخ الأديان من جملتها الديانة المسيحية وکان المحور الرئيسي لهذه الدورة مؤلفات العلامة البلاغي ولا أخفي عليکم أنّه بفضل هذه المؤلفات وما تحتويه من حقائق، فقد اعتنق الإسلام خمسة طلاب من روسيا والفلبين وتايلند …)[3].
الحوار والمحاورون
رغم أن الحوار بين أهل الأديان والمذاهب هو من الضرورات التي يحتمها الواقع إلا أن افتقاد المحاورين لأدب الحوار وعدم التزامهم بقواعد العقل والمنطق أدى إلى مزيد من التباعد بينهم وربما إلى مزيد من الصراعات بدلا من التقارب الذي هو الهدف المتوخى من الحوار.
يتمثل السعي للتقارب من خلال التأكيد على المشترك الجامع بين أتباع الرسالات السماوية كما جاء في الشطر الثاني من الآية الكريمة (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ).
الحد الأقصى المتوخى من الحوار بين الفرقاء المختلفين أن يقنع أحد الأطراف الطرف الآخر بعقيدته أو مذهبه فإن لم يفلح في تحقيق هذا الهدف فلا أقل من تحقيق نوع من التفهم المتبادل لا أن يخرج الطرفان وقد ازدادت صورة الآخر قتامة لديهم.
أما أن يكون الحوار سبا وقذفا أو هجوما عشوائيا بغير علم ولا بينة ولا هدى فالكف عن هذا النوع من الحوار أفضل.
آداب المناظرة
من هنا تأتي أهمية قراءة ما أورده العلامة البلاغي في كتابه (الهدى إلى دين المصطفى) تحت عنوان (في آداب المباحثة والمناظرة):
حيث قال رحمه الله: لا يخفى على كلّ ذي رشد ومعرفة بطريق البحث والمباحثة أنّ مباحثة أهل الدين والاعتراض على جامعتهم وأصل دينهم إنّما يحسن، ولا يعدّ خبطاً ومراوغة عن الحقّ إذا كان البرهان عليهم بالمقدّمات المنتهية إلى بداهة العقل أو المسلّمة عند عمومهم، وإذا كان الجدل والإلزام لهم بما يعلم أنّه من الدين الذي عكفوا عليه والقدر الجامع بينهم، لا بما كان رأياً أو رواية يختصّ به واحد أو آحاد من أهل ذلك الدين لا يفيد علماً، ولا يُذعِن عموم أهل الدين بصحّته أو أنّه من دينهم; فإنّ تشبّث خصمهم بمثل هذا في الاحتجاج على جامعتهم، كان ذلك منه حياداً عن الحقّ; لضعف الحجّة وضيق الخناق.
ولأجل هذا لم أعتمد في هذا الكتاب في البرهان إلاّ على ما هو من المقدّمات البديهيّة لدى العقل والعقلاء، ولم أُجادل عموم النصارى وألزمهم في جامعة دينهم والنصرانيّة التي عندهم إلاّ بما تسالموا على إلهاميّته وصدوره عن الوحي، وهي كتب العهدين التي ذكرنا أنّهم متّفقون في هذه القرون على نسبتها إلى الوحي والإلهام، وشرحنا أسماءها في المقدّمة الأُولى. ولم أُباحثهم خبطاً بآراء آحاد مفسّريهم وعلمائهم، أو آحاد تقاليدهم التي لا توجب في دينهم علماً، أو يأبى صحّتها أغلبهم. أ.هــــ
 
الحوار بين فرقاء المذاهب والأديان ضرورة يقررها الشيخ البلاغي وهي (مما يحسن) إذا التزم هذا الحوار بضوابط العقل وهذا الكلام لطمة وجهها الشيخ لدعاة إيصاد الباب في وجه الحوار كما يزعم البعض في هذا الزمان.
الحوار لا بد أن يقوم على قاعدة (ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم) لا بما نرغب نحن في إلزامهم به ولا شك أن أتباع الأديان والمذاهب يَدّعون التزامهم بالعقل فضلا عن النص المقدس ومن هنا فمن الضروري أن يلتزم المحاور بقواعد العقل فضلا عما يعده الطرف الآخر نصا مقدسا بدلا من التشكيك العشوائي في النصوص وهو ما قد يؤدي إلى التشكيك في نص صحيح وكل هذا يعني شيئا واحدا هو المكابرة وليس الجدال بالتي هي أحسن كما أمرنا الله عز وجل.
القاعدة الثانية من قواعد الحوار التي التزم بها العلامة البلاغي قدس سره هي الارتكاز على ما (تسالم أهل الكتاب على إلهاميّته وصدوره عن الوحي) وليس على (آراء آحاد مفسّريهم وعلمائهم التي لا توجب في دينهم علماً أو يأبى صحّتها أغلبهم).
وهذا هو قمة الإنصاف.
إذ كيف يمكن لفريق أن يلزم فريقا بما (اعتبره) علماء هذا الفريق رأيا شاذا لا يعتد به ولا يوجب علما ولا عملا.
البعض قد يرى في هذا (الاعتبار) نوعا من التنصل ومن الممكن أن يكون الأمر كذلك وهنا تأتي قيمة العلم والاطلاع على آراء علماء الدين أو المذهب الآخر والتمييز بين ما هو رأي معتبر وما هو رأي شاذ أو مجرد تهمة يرغب البعض في إلصاقها كيفما اتفق.
الإنصاف في الحوار والرغبة في الوصول إلى الحقيقة هو صفة تلتصق بصاحبها وتصبح سمة من سماته وهو ما يشجع المخالفين على الدخول في حوار معه من دون خوف ولا وجل من إلصاق تهم كاذبة أو تقطيع الوقت في جدل سوفسطائي لا يقدم ولا يؤخر ولا يخدم الباحثين عن هذه الحقيقة.
إنصاف المخالف هي إحدى الخصال التي أوصى بها أئمة أهل البيت عليهم السلام: قال أمير المؤمنين عليه السلام: ألا إنه من ينصف الناس من نفسه لم يزده الله إلا عزا.
إنه نفس المعنى الوارد في كتاب الله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياًّ أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً)[4].
لقد وضع رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله قواعد الحوار مع أهل الكتاب (بوحي من الله عز وجل) عندما جاءه وفد نصارى نجران ونزل قول الحق تبارك وتعالى (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ)[5].
يكفي إنصافا أن يقول الله تبارك وتعالى (ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) أي أنه ساوى بين طرفي الحوار في المقدمات ولم يحاورهم من منطلق تكذيبهم ولا سبهم ولا شتمهم, فالدليل بالدليل والحجة يقابلها حجة حتى يحكم الله بين خلقه وهو خير الحاكمين والمهم هو نتائج الحوار وليس مقدماته.
أحد الأمثلة الصارخة لانتهاك آداب وقواعد الحوار هو ذلك الهجوم الأهوج الذي يشنه بعض الحمقى على شيعة أهل البيت عندما يتهمونهم بالاعتقاد بتحريف القرآن رغم أن هذا الرأي هو رأي شاذ ورغم وجود عشرات الكتب التي أصدرها علماء المذهب والتي تؤكد على نفي تحريف القرآن ورغم أن ثمة آراء مشابهة عند المخالفين للشيعة ورغم أن الإصرار على نسبة القول بالتحريف لعموم الشيعة يعني من بين ما يعني أن قطاعا عريضا من المسلمين يقول بالتحريف وهو ما يضعف حجة المسلمين ككل في مواجهة المختلفين معهم حول أصل الإسلام وحول صحة كتاب الله وأنه وحي إلهي نزل به الروح الأمين على رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم.
القاعدة الثانية التي يمليها العقل هي بدء النقاش من نقطة تمثل جامعا مشتركا بين الأديان السماوية ومن أهمها قاعدة عصمة الأنبياء من الزلل والخطأ.
إنها القاعدة التي حاول أهل الزيغ والأهواء سواء من أدعياء الإسلام أو النصرانية أو اليهودية أن يثيروا من حولها الشكوك والشبهات توصلا إلى الطعن في صاحب الرسالة وتسهيلا لمهمتهم في تبرير زيغهم وانحرافهم عن جادة الصراط.
وبينما يصر شيعة أهل البيت على إثبات العصمة الكاملة التامة للرسل والأنبياء نرى أن كتب أرباب الديانات السابقة والحالية قد امتلأت بالدس على أنبياء الله العظام توصلا لإهدار قدسية الرسول وتسويغا لانحراف العوام ومخالفتهم لأوامر الله نواهيه.
يقول العلامة البلاغي في كتابه (الهدى إلى دين المصطفى): في بيان حقيقة الرسول:
النبيّ المرسل هو إنسان كامل يرسله الله إلى البشر ليكمّلهم ويهديهم إلى الصواب، ويرشدهم إلى ما يحتاجون إليه في معرفة الله وطاعته والاحتراز عن معصيته، ويحملهم على ما فيه حفظ كمالاتهم ومصالحهم الشخصيّة والنوعيّة في الدين والدنيا ويزجرهم عمّا يضرّهم فيهما.
لا ينبغي أن يشكّ ذو رشد بأنّ ما ذكرناه هو الغاية المطلوبة من إرسال الله للنبىّ. وتقريره بالبيان الواضح هو أنّ إرسال الله للنبيّ في دعوته رحمة من الله ولطف من ألطافه بمن يدعوهم النبيّ، ليُقرِّبهم إلى طاعة الله، ويُبعِّدَهم عن معصيته، ويُنبِّهَهم من رقدة الغفلة، وينقذهم من سَورَة الهوى والضلال، ويحملهم على جادّة الهدى ودين الحقّ وقوانين العدل وحسن التمدّن والاجتماع وآداب السياسة، لينالوا سعادة الدارين.
وأوّل ما يلزم في تحصيل هذه الغاية الشريفة والغرض الحميد، وحصول هذا اللطف والرحمة أمران:
أحدهما: كون الرسول معصوماً في التبليغ غير متّهم فيه، مع فرض رسالته.
وثانيهما: كونه معصوماً عن الذنوب وارتكاب القبائح التي هي ضدّ لما يدعو إليه من شريعة الهدى والصلاح.
أمّا الأمر الأوّل: فقد اتّفق عليه أهل الملل القائلون بالنبوّة والرسالة; لوجه أوضَحَتْه لهم بداهةُ عقولهم، وليس حقيقته إلاّ تحصيل الغرض من الرسالة، وقبح نقضه بإرسال الكاذب والمخطئ في التبليغ.
وأمّا الأمر الثاني: فحقيقة وجهه وحجّته عين الوجه الأوّل وحجّته ـ وإن خالف فيه اليهود والنصارى ـ فإنّه يقبح ويمتنع من الله القادر القدّوس الغنيّ العليم الحكيم أن يجعل رحمته ولطفه في طريق يمنع عن فائدتهما ويصدّ عن منفعتهما، مع إمكان أن يجعلهما في طريق لا يمنع عن حصول الغرض والفائدة ولا مفسدة فيه، بل هو الناجح في تحصيل الغرض. ولبيان ذلك وجوه.
إنّ إرسال النبيّ الذي يصدر منه الذنب والقبيح ومخالفة شريعة الحقّ ناقض للغرض المطلوب من إرساله، ونقض الغرض قبيح ببداهة العقل ومنقصة فاضحة، فهو ممتنع على الله; فإنّ الوجدان ليشهد بأنّ نفوس البشر المحتاجة إلى الاستصلاح والترويض والإرشاد والتقريب إلى الله وشريعة الحقّ لتنفِر نُفرَةً شديدة عن الانقياد إلى من يدعوها إلى الله والشريعة ويعظها ويوبّخها ويزجرها عن شهواتها، إذا كان ممّن يخالف الله والشريعة ويتمرّد على أحكامها وينقاد إلى شهواته وهواه مع ادّعائه المعرفة والرئاسة الدينيّة، فلا تصغي إلى إرشاده ولا تعتني به فانظر بوجدانك إلى المذنب العاصي إذا جاءك واعظاً مرشداً مؤدِّباً زاجراً لك عن اتّباع هواك، فهل ينتج من إرشاده ووعظه وزجره إلاّ أن يُسْتَهْزَأ به ويقال له: كَمِّل نفسك وأصلِحها وأرشدها، ثمّ التفت إلى تكميل غيرك وإرشاده، وحينئذ ادّعِ عليه الرئاسة وفضيلة الإرشاد وسيطرة الزجر والتوبيخ.
بل نقول: إنّ صدور الذنب والقبيح من الرسول ـ الذي هو الرأس والرئيس والقدوة في الدين ـ مؤيِّد ومحرِّك لدواعي سائر البشر إلى الإقدام على الذنوب والتهاون بالشريعة; لشهادة الوجدان بأنّ رئيس الدين إذا أذنب، هان على الناس اتّباعه في الاقتحام في الذنوب، وتحرّكت شهواتهم وأهواؤهم إليها، وقد لهج الناس بقولهم الموافق للحكمة والتجربة: «إذا فسد العالِم فسد العالَم». على ذلك يلزم من صدور الذنب والقبيح ومخالفة الشريعة من الرسول، حصولُ الفساد من الجهة التي أراد الله برحمته ولطفه منها الصلاح. وحقيقة هذا ومعناه أن يريد الله الصلاح ـ لأجل رحمته ولطفه بعباده ـ من الجهة التي هي أشدّ وأدعى في انتشار الفساد، وهل يرتاب عاقل في قبح ذلك وامتناعه على الله جل شأنه؟!.
إنّ أهل الكتاب قد اتّفقوا على الاعتراف والتسليم بلزوم عصمة الأنبياء في التبليغ، وحجّتهم في ذلك ليست إلاّ نحو ما ذكرنا من دليل العقل في رعاية الغاية المطلوبة من الرسالة. وماذا تراهم يصنعون فيما ورد في كتبهم التي ينسبونها إلى الوحي والإلهام، من نسبة بعض الأنبياء إلى الكذب في تبليغ الوحي ، على وجه الصراحة التي لا يحوم حولها مقبول التأويل؟ أتراهم يعدلون عن دليل العقل، ويقولون بكذب النبيّ في التبليغ تعبّداً بما في كتبهم، أم يعترفون بأنّ ما ينادي بصراحته بكذب الأنبياء في التبليغ ليس من الوحي والإلهام بل هو مدسوس فيه؟. أ.هـ.
والعجيب كما يذكر العلامة البلاغي أن الذين يطعنون على رسول الله صلى الله عليه وآله يتلمسون الأدلة المفتعلة التي تطعن في عصمة نبينا عليه أفضل الصلاة وأتم السلام وهي الأدلة التي لا يقر بصحتها جمهور المسلمين ويكفي أن يرفضها علماء مذهب أهل البيت ليسقط أي ادعاء بالإجماع عليها.
يقول العلامة البلاغي أيضا: وأيضاً قد تكرّر من المتكلّف (الكاتب الذي طعن في الإسلام) في أجزاء كتابه سيّءُ الطعن بقدس رسول الله خاتم المرسلين صلوات الله عليه، بنسبة المعصية والذنب له، لأجل أن يتشبّثوا بوهم ذلك لنفي رسالته صلوات الله عليه، وعدم صلاحيته لها. مع أنّ ما نسبوه له لو تساهل معهم الامتناع في فرضه لم يبلغ مبلغ ما نسبته كتبهم لموسى وهارون وداود وسليمان وإرميا والمسيح قدّست أسرارهم.
 
يبدو الآن واضحا ومن خلال التطورات الجارية في العالم والهجوم الضاري الذي يتعرض له المسلمون في أصل عقيدتهم لأسباب كثيرة ومتنوعة من بينها إخفاق المسلمين في عرض بضاعتهم وترك الأمور لحفنة من الحمقى المهووسين بالعنف والقتل فضلا عن الضغائن التي امتلأت بها قلوب الكارهين للإسلام أننا بحاجة إلى إعادة إحياء ثقافة الحوار والجدال بالتي هي أحسن وفقا للقواعد التي تحدثنا عن بعضها سابقا.
إحياء ثقافة الحوار وإقامة الحجة على المخالفين يحتاج إلى تعمق في العلم وإلمام بثقافة الآخرين وعقائدهم وآرائهم وهي مهمة تقع على عاتق المرجعيات الدينية والسياسية التي يتعين عليها إعداد المحاورين وتزويدهم بما يلزم من آليات الحوار والجدال بالتي هي أحسن.
لم يعد من الجائز أيضا بعد الذي جرى في الدانمارك وتصريحات بابا الفاتيكان إهمال الإعداد للحوار مع الغرب المسيحي وترك الأمور للمصادفات والاقتصار على ردات الفعل والتظاهر السياسي احتجاجا على تلك التصريحات أو على الرسوم المسيئة إذ أن كل هذه الأحداث تخفي وراءها جبلا من الجهل وغياب المعرفة المتبادلة.
لم يعد كافيا إلقاء اللوم على الحقد الصليبي أو على التآمر الصهيوني فمثل هذه التبريرات رغم صحة بعضها لم تعد تفي بالغرض والثابت أن المسلمين وعلمائهم لم يقوموا بكل ما يمكنهم القيام به ولا زال لديهم المزيد والمزيد من الجهد الذي يتعين عليهم بذله دفاعا عن دينهم بالحجة والعقل والمنطق حتى لا يضطروا للصراخ وقيادة المظاهرات.
دكتور أحمد راسم النفيس
12-11-2007.
المنصورة مصر
[1] النحل 125.
[2] العنكبوت 26.
[3] http://allamehbalaghi.com/ar/index.php?Mod=Articles&ID=3&start=0
[4] النساء 135-136.
[5] آل عمران 61.