القرآن : بين الرواية ، ومًُصحف عثمان

 

بقلم أبو مرتضى علي _ تونس 

 

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسّلام على من إصطفى وآله الأطهار المنتجبين ,
السلام على أهل البصائر ورحمته تعالى وبركاته ,

يعتقد أهل السنّة والجماعة بأنّ القرآن هو كلام الله تعالى المنزل على حبيبه المصطفى محمّد (ص) بلسان عربي مبين . وإنّ هذا القرآن محفوظ من قبل الله تعالى ، لقوله : (( أنّا نحن نزّلنا الذكرى وإنا له لحافظون )) ولكن وفي واقع الحال هذا قولهم بألسنتهم ، وتكذّبهم في زعمهم هذا صحاحهم ومراجعهم , وقد إكتضّت بعشرات الروايات التي تشير إلى تحريف القرآن ، مع الزيادة والنقصان وتقصير يُنسب لرسول الرحمة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلّم) في عدم جمعه وإهماله , حيث يروى البخاري في صحيحه أن عمر قال لأبي بكر : أن القتل قد إستحر يوم القيامة بقراء القرآن ، وإنّي أخشى أن يستحرّ القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن . وإنّي أرى أن تأمر بجمع القرآن ,
فقال أبو بكر : كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله (ص) ؟
قال عمر : هذا والله الخير.
قال أبو بكر : فلم يزل عمر يُراجعني حتى شرح الله صدري لذلك؟
كلّ هذا الخير وشرح الصدر حرمَ منه الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وآله) وأكرمَ به رُكنيْ السقيفة ؟ وليست المرّة الأولى ولا الأخير ، تُداس كرامة رسول الله أو يُنتقص عقله وكماله وفضله , حتّى يُعطى أربابهم ذلك ,؟ وهنا إتّهموا خاتم الرسل (ص) بالإهمال لأقدس ما جاء به ، و من أجله : القرآن الكريم , حيث تركه في صدور الرجال ولم يجمعه ، ولم يأمر بجمعه , فتركه مشتتا ومهددا بالضياع . بل قد أهمل بذلك واجبه الأساسي الذي بُعث من أجله خاصة وأنّه النبيّ الخاتم : (( ألا بُعدا للظالمين )).

ثمّ يأتي شيخهم البخاري في سقيمه ليُتمّ نسج خيوط الفرية فيقول : أنّ أبا بكر قام بتكليف زيد بن ثابت بجمع القرآن بقوله :
أنّك رجل شاب عاقل ّلأتّهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله (ص) فتتبع القرآن فاجمعه ,
قال زيد : فتتبعت القرآن أجمعه من لعسب واللخاف وصدور الرجال حتّى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره , فكانت الصُحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثمّ عند عمر حياته ، ثمّ عند حفصة بنت عمر ,
فهل من مساءل هؤلاء الذين أعماهم حبّ الأولياء ، وما خلّفت لهم عقيدة إبتداء , كيف نسلّم ونثق بمثل هذا العمل المشبوه من فعل الأمر والفاعل , وكيف لشخص واحد وشاب ، لم نسمع له من عهد رسول الله (ص) موقف لا في العير ولا في النفير , فنأتمنه على أقدس مقدّساتنا والدستور الخالد بخلود الأيام والليالي ؟ ولو صدّقنا الفرية ، فأين عليّ (عليه السّلام) وهو باب مدينة علم المصطفى (ص) ، وهارون الأمّة وباب حطّتها وفيه كرائم القرآن ، وكنوز الرحمان ، إذا نطق صدق ، وإذا صمت لم يُسبق , أمن أجل أن تجعلوا فضيلة لركني السقيفة عمر وأبا بكر ؟ تسيئون إلى أهمّ مقدّساتكم : محمّد والقرآن ؟ , وكيف لا توجد سورة التوبة إلاّ عند واحد فقط ؟ فهل هذا لتقصير رسول الله (ص) في تبليغ رسالات ربّه ؟ وهل يُستبعد والحال هذه أن يكون هناك آيات أخرى قد فقدت ؟ وكيف للمصحف المزعوم أن يكون حكرا على أبا بكر وعمر ثمّ حفصة ؟ فهل هو ملك خاص ؟ أم الإستبداد العقائدي والسياسي ؟

وأنا أسأل حماتهم : هل ترون من الحقّ والدين والمنطق والعقل والإنصاف والحياء والمروءة والعدل ,. أن يكون المصحف مع حفصة ولا يكون مع أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) وهو القرآن الناطق؟ ولكن تلك شنشنة أعلمها من أخزم .
ثمّ بعد ذلك كلّه نتساءل : أين كان دور أبا بكر وعمر في هذا الجمع ؟ وأين ما حفظوه من رسول الله (ص)؟

كما يروي أهل السنّة والجماعة في كتبهم أن هناك آيات نزلت من القرآن ، ثمّ رُفعت وبقي حكمها ، وآيات بقيت ونسخ حكمها ؟ : ومن الآيات التي رفعت : (( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة )) [1]
(( بلغوا عنّا قومنا أنا قد لقينا ربّنا )) [1]
وقال أبيّ بن كعب : (( كانت سورة الأحزاب قدر سورة البقرة )) [1]
وقال حذيفة : (( ما يقرؤن ربعها ؟ أي سورة براءة )) [1]
و في مسند أحمد عن أبي واقد الليثي قال : كنا نأتي النبي (ص) إذا أنزل عليه فيحدثنا . فقال لنا ذات يوم أن الله عز و جل قال : إنا أنزلنا المال لإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و لو كان لابن آدم واد ، لأحبّ أن يكون له ثان، ولو كان له واديان لأحبّ أن يكون لهما ثالث ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ثم يتوب الله على من تاب ,.
و روى الطبري و البهيقي أن من القرآن سورتين الأولى منهما : بسم الله الرحمان الرحيم اللهم أنا ستعينك و نستغفرك و نثني عليك الخير و لا نكفرك و نخلع و نترك من يفجرك ,
و الثانية منهما : بسم الله الرحمان الرحيم اللهم إياك نعبد و نصلي و نسجد و إليك نسعى و نحفد نرجو رحمتك و نخشى عذابك الجد إن عذابك بالكفار ملحق ,
و عن أبى بن كعب قال : أن رسول الله (ص) قرأ عليه ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب و فيها أن ذلك الدين القيم عند الله الحنيفية غير المشركة و لا اليهودية و لا النصرانيّة و من يعمل خيرًا فلن يكفره ,.[2]
قال زيد بن الثابت : فقدت آية من الاحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله (ص) يقرأ بها . فالتمسنا ها فوجدناها مع خزينة الانصارى و هي ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) فألحقناها بالمصحف ,[3]
و يروى عروة بن الزبير عن عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي مئتى آية . فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر إلا ما هو الآن ,[4]
ولو استقصين أثر القوم في هذه المخازي لطال السرى , ولكن في ما ذكرنا الكفاية لمن أراد إجتباب الغواية .
وأمّا المطلب الثاني : وهو جمع القرآن وكيفته ، فتأتي الرواية بالمتاهات , وهم يروون أنّ عثمان لمّا أراد جمع المصحف أرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالمصحف ثمّ نردّه إليك ، فأرسلت به إلى عثمان ,[5]

وكم من سؤال ينتظر الجواب ومنذ قرون عدّة ، ولن تأتيك إلاّ التبريرات الباهتة ، والتأويلات السقيمة :
● لماذا وقع الاختيار على مصحف حفصة الذي جمعه زيد بن ثابت بأمر أبي بكر وعمر ، والقرار بإحراق المصاحف الأخرى ؟
● ولماذا كان الإلزام بما عندهم دون غيرهم , ومن بينهم من عنده علم الكتاب ، هارون الأمّة عليّ (ع) وحبرها أبن عبّاس وأصدقها لهجة أبا ذرّ وسلمان المحمّديّ (رضوان الله تعالى عليهم) وغيرهم .
● وهل من مجيب على أن المصحف الوحيد كان عند حفصة ، ولا يوجد غيره عند بقيت الصحابة؟ وانّ على عهد رسول الله (ص) لم يكن القرآن قد جُمع ؟ فليختاروا بين إثنتين : بين كذب مفضوح أو وبهتان صريح : فلو قالوا بالأولى ، وهم يعتقدون بها حيث يعتبرون من أفضال عثمان جمعه للقرآن , وعندها يقعون في التناقضات - وهم أركانها - لأنّهم يؤكدون في رواياتهم أنّ هناك مصاحف كانت على عهد رسول الله (ص) : كمصحف عليّ (ع) ومصحف أبن مسعود ومصحف أبي بن كعب ومصحف أبن عباس ,
● فلماذا تركت هذه المصاحف وأصحابها من خيرة الصحابة وأعلامها , واستعان أبا بكر وعمر بزيد بن ثابت ، كما إستعان عثمان بسعيد بن العاص وعبد الرحمان بن الحارث بن هشام وعبد الله ابن النزى[6]؟

هكذا كان موقف عثمان إمتداد لموقف من سبقه ، ممّا أثار معارضة أعلام الصحابة كابن مسعود على ما ذكر البخاري في صحيحه حيث قال : (( خطبنا ابن مسعود فقال : والله لقد أخذت من في رسول الله (ص) بضعا وسبعين سورة . والله لقد علم أصحاب النبي أنّي من أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم ))
كما روى أبو داود والنسائي قول أبن مسعود : (( ومن يغلل يأتي بما غلّ يوم القيامة , غلوا مصاحفكم ، وكيف تأمروني أن أقرأ على قراءة ابن ثابت ، وقد قرأت على في رسول الله (ص) ))
وبمثل هذه المواقف من ابن مسعود يكشف أن عمل الجماعة لم يكن عليه إجماع , وهناك هدف من وراء حرق المصاحف ، حتّى سمي عثمان : حرّاق المصاحف ,[7]

في حين أنّ واقع الحال أنّ جبريل (ع) كان يعرض على رسول الله (ص) القرآن كلّ عام مرّة ، وفي العام الذي قُبض فيه (ص) مرتين ,[8] وهنا تكمن الحقيقة الساطعة على عناية الله ورسوله بالكتاب المقدّس ودستور النجاة ما بقي الله والنهار , ومع هذا وذلك تراهم يكيلون التهم للشيعة ، ويدّعون عليهم زورا وبهتانا بأنهم يعتقدون بمصحف غير الذي بين يدي المسلمين ، أو أنهم يقولون بالتحريف , ولكن كبرت كلمة تخرج من أفواههم , إن يقولون إلاّ كذب .
وفي قول هارون الأمّة (ع) الكفاية والغاية : فأين تذهبون وأين تؤفكون ؟ والأعلام قائمة ، والآيات واضحة ، والمنار منصوبة , واعلموا أنكم لن تعرفوا الرُّشد حتّى تعرفوا الذي تركه ، ولن تأخذ بميثاق الكتاب حتّى تعرف الذي نقضه ، ولن تمسكوا به حتّى تعرفوا الذي نبذه، وألزموا ذلك من عند أهله .
والسلام في البدء والختام ممن سيبقى على العهد مقيما
أبو مرتضى عليّ

[1] فتح الباري ج 8 - 26 . ومسلم ج 5 - 116 . وكتاب تاريخ القرآن ، والمستدرك والإتقان للسيوطي ,
[2] مسند الإمام أحمد بن حنبل والمراجع السابقة ,
[3] فتح الباري ج9 - كتاب فضل القرآن - ,
[4] الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ,
[5] فتح الباري ج 9 وكتاب تاريخ القرآن ,
[6] أنظر المراجع السابقة ,
[7] فتح الباري ج9 , وانظر كتب التاريخ فترة مصرع عثمان ,